الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
2 - نظراً لتعذر إدراك كُنْه الموت، فقد علَّق الفقهاء الأحكام الشّرعيّة المترتِّبة عليه بظهور أمارته في البدن، فقال ابن قدامة: إذا اشتبه أمر الميّت اعتبر بظهور أمارات الموت، من استرخاء رجليه، وانفصال كفَّيه، وميل أنفه، وامتداد جلدة وجهه، وانخساف صدغيه. وجاء في روضة الطّالبين: تستحبُّ المبادرة إلى غسله وتجهيزه إذ تحقَّق موته، بأن يموت بِعِلَّة، وتظهر أمارات الموت، بأن تسترخي قدماه ولا تنتصبا، أو يميل أنفه، أو ينخسف صدغاه، أو تمتدُّ جلدةُ وجهه، أو ينخلع كفَّاه من ذراعيه، أو تتقلَّص خصيتاه إلى فوق مع تدلّي الجلدة... إلخ. هذا، وقد نبَّه النّبي صلى الله عليه وسلم إلى أنّ شخوص بصر المحتضر علامة ظاهرة على قبض روحه ومفارقتها لجسده، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ الروح إذا قُبض تبعه البصر». وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإنّ البصر يتبع الروح».
3 - نصَّ جمهور علماء أهل السنّة والجماعة على أنّ الأرواح بعد الموت باقية غير فانية، إمّا في نعيم مقيم، وإمّا في عذاب أليم، قال في الإحياء: الّذي تشهد له طرق الاعتبار، وتنطق به الآيات والأخبار أنّ الموت معناه تغيرُّ حال فقط، وأنّ الروح باقية بعد مفارقة الجسد، إمّا معذّبة، وإمّا منعّمة. قال الزبيدي: وهذا قول أهل السنّة والجماعة وفقهاء الحجاز والعراق ومتكلّمي الصّفاتيّة. وقد بيَّن أحمد بن قدامة ذلك بقوله: والّذي تدل عليه الآيات والأخبار أنّ الروح تكون بعد الموت باقيةً، إمّا معذّبةً، أو منعّمةً، فإنّ الروح قد تتألّم بنفسها بأنواع الحزن والغمّ، وتتنعَّم بأنواع الفرح والسرور من غير تعلق لها بالأعضاء، فكل ما هو وصف للروح بنفسها، يبقى معها بعد مفارقة الجسد، وكل ما لها بواسطة الأعضاء يتعطَّل بموت الجسد إلى أن تُعاد: الروح إلى الجسد. واحتجّ على أنّ الروح لا تنعدم بالموت بقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} حيث قال عليه الصلاة والسلام فيه: «جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنّة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظلّ العرش»، وبما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ، إن كان من أهل الجنّة فمن أهل الجنّة، وإن كان من أهل النّار فمن أهل النّار، يقال: هذا مقعدك حتّى يبعثك اللّه إليه يوم القيامة»، فدلَّ ذلك على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة، إلى أن يرجعها اللّه في أجسادها، ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النّعيم والعذاب. وقد أورد الإمام الغزالي توضيحاً لحال الروح وحياتها بعد موت البدن فقال: هذه الروح لا تفنى البتّة ولا تموت، بل يتبدَّل بالموت حالها فقط، ويتبدّل منزلها، فتنتقل من منزل إلى منزل، والقبر في حقّها إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرةً من حفر النّيران، إذاً لم يكن لها مع البدن علاقة سوى استعمالها البدن واقتناصها أوائل المعرفة به بواسطة شبكة الحوّاس، فالبدن آلتها ومركبها وشبكتها، وبطلان الآلة والمركب والشّبكة لا يوجب بطلان الصّائد. وذهبت طائفة إلى أنّ الروح تفنى وتموت بموت الجسد ؛ لأنّها نفسٌ، وقد قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ}. قال الزبيدي: وقد قال بهذا القول جماعة من فقهاء الأندلس قديماً، منهم عبد الأعلى بن وهب بن لبابة، ومن متأخّريهم كالسهيليّ وابن العربيّ. وقال ابن القيّم: والصّواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد بأنّها تعدم وتضمحلُّ وتصير عدماً محضاً، فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب.
أ - الروح: 4 - ذهب أهل السنَّة من المتكلّمين والفقهاء والمحدِّثين إلى أنّ الروح جسم لطيف متخلّل في البدن، تذهب الحياة بذهابه، وعبارة بعض المحقّقين: هي جسم لطيف، مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر، وبه جزم النّووي وابن عرفة المالكي، ونقلا تصحيحه عن أصحابهم. وقال الفيومي: ومذهب أهل السنّة أنّ الروح هو النّفس النّاطقة المستعدّة للبيان وفهم الخطاب ولا تفنى بفناء الجسد وأنّه جوهر لا عرضٌ. والصّلة بين الموت وبين الروح هي التّباين. ب - النّفس: 5 - ذهب جمهور أهل السنّة من فقهاء ومحدّثين ومتكلّمين إلى أنّ المراد بالنّفس الروح. يقال: خرجت نفسه, أي روحه, وأنّه يعبّر عن النّفس بالروح وبالعكس. قال ابن تيميّة: الروح المدبِّرة للبدن الّتي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه, وهي النّفس الّتي تفارقه بالموت... وإنّما تسمّى نفساً باعتبار تدبيرها للبدن, وتسمّى روحاً باعتبار لطفها. ودليلهم على ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}، قال ابن القيّم: والأنفس هاهنا هي الأرواح قطعاً. وتقسّم النّفس إلى النّفس الأمّارة, واللّوّامة, والمطمئنّة, وذكر ابن تيميّة أنّ النّفس يراد بها عند كثير من المتأخّرين صفاتها المذمومة, فيقال: فلان له نفسٌ: أي مذمومة الأحوال, وأيضاً: فإنّ النّفس لمّا كانت حال تعلقها بالبدن يكثر عليها اتّباع هواها صار لفظ " النّفس " يُعبّر به عن النّفس المتّبعة لهواها, أو عن اتّباعها الهوى, بخلاف لفظ " الروح" فإنّه لا يعبّر به عن ذلك. وقال الفيوميّ: والنّفس أنثى إن أريد بها الروح, قال تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}, وإن أريد الشّخص فمذّكّر. وحكى الكفويّ في الكلّيّات أنّ الإنسان له نفسان: نفسٌ حيوانيّة, ونفسٌ روحانيّة. فالنّفس الحيوانيّة لا تفارقه إلّا بالموت, والنّفس الروحانيّة - الّتي هي من أمر اللّه - هي الّتي تفارق الإنسان عند النّوم, وإليها الإشارة بقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}، ثمّ إنّه تعالى إذا أراد الحياة للنّائم ردّ عليه روحه فاستيقظ, وإذا قضى عليه بالموت أمسك عنه روحه فيموت, وهو معنى قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}، أمّا النّفس الحيوانيّة فلا تفارق الإنسان بالنّوم, ولهذا يتحرّك النّائم, وإذا مات فارقه جميع, ذلك. والصّلة بين النّفس والموت التّباين. ج - الحياة: 6 - الحياة في اللغة نقيض الموت, وهي في الإنسان عبارة عن قوّة مزاجيّة تقتضي الحسّ والحركة, وهي الموجبة لتحريك من قامت به, ومفهومها عند الفقهاء: أثر مقارنة النّفوس للأبدان, وإنّها لتسري في الإنسان تبعاً لسريان الروح في جسده. وحكى القزويني أنّ الروح هي الحياة, وأنّ الحياة عرضٌ يقوم بالحيّ, فمتى وجد فيه يكون حيّاً, وإذا عدم فيه فقد حصل ضدُّه, وهو الموت. وقد ذكر الرّاغب الأصفهاني أنّ " الحياة " تستعمل على أوجهٍ: الأوّل: للقوّة النّامية الموجودة في النّبات والحيوان, ومنه قيل: نبات حيٌّ, قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}. والثّاني: للقوّة الحسّاسة, وبه سمّي الحيوان حيواناً, قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ}. والثّالث: للقوّة العالمة العاقلة, كقوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}. والرّابع: عبارة عن ارتفاع الغمّ, وعلى ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ}، أي هم متلذّذون لما روي في الأخبار الكثيرة عن أرواح الشّهداء. والخامس: الحياة الأخرويّة الأبديّة, وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} يعني بها الحياة الأخرويّة الدّائمة. والسّادس: الحياة الّتي يوصف بها الباري تعالى, فإنّه إذا قيل فيه سبحانه, هو حيّ, فمعناه لا يصح عليه الموت, وليس ذلك إلّا للّه عزّ وجلّ. ثمّ إنّ الحياة باعتبار الدنيا والآخرة ضربان الحياة الدنيا, والحياة الآخرة. وقوله عزّ وجلّ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، أي يرتدع بالقصاص من يريد الإقدام على القتل, فيكون في ذلك حياة النّاس. والصّلة بين الموت والحياة أنّهما نقيضان. د - الأهليّة: 7 - الأهليّة شرعاً هي كون الإنسان بحيث يصح أن يتعلّق به الحكم, والمعنى أنّها صفة أو قابليّة يقدّرها الشّارع في الشّخص تجعله محلاً صالحاً لأن يتعلّق به الخطاب التّشريعي. والصّلة بين الموت وبين الأهليّة أنّ الموت سبب من أسباب انعدام الأهليّة. هـ - الذّمّة: 8 - الذّمّة كما عرّفها الجرجاني: وصف يصير الشّخص به أهلاً للإيجاب له وعليه. والصّلة بين الموت وبين الذّمّة أنّ الموت سبب من أسباب انعدام الذّمّة أو ضعفها أو شغلها.
9 - الموت عند الفقهاء على ثلاثة أقسام: حقيقيّ, وحكميّ, وتقديريّ. فأمّا الموت الحقيقي: فهو مفارقة الروح للجسد على وجه الحقيقة واليقين, ويعرف بالمشاهدة, ويثبت بإقامة البيّنة عليه أمام القضاء. وأمّا الموت الحكمي: فهو حكم يصدر من قبل القاضي بموت شخصٍ من الأشخاص - وإن كان لا يزال حيّاً - لسبب شرعي يقتضي ذلك. ومن أمثلته عند الحنفيّة: المرتد إذا لحق بدار الحرب, وصدر حكم القاضي بلحوقه بها مرتداً, فإنّه يعتبر ميّتاً من حين صدور الحكم, وإن كان حيّاً يرزق بدار الحرب, فيقسم ماله بين ورثته, وقد علّل ذلك السّرخسي بقوله: لأنّ الإمام لو ظفر به موّته حقيقةً, بأنّ يقتله, فإذا عجز عن ذلك بدخوله بدار الحرب موّته حكماً, فقسم ماله. ومن أمثلته عند المالكيّة: المفقود " وهو الّذي يعمى خبره, وينقطع أثره, ولا يُعلم موضعه, ولا تدرى حياته ولا موته " إذا حكم القاضي بموته بناءً على ما ترجّح لديه من الظروف وقرائن الأحوال, فإنّه يعتبر ميّتاً من حيث الحكم, قال الدسوقيّ: لأنّ هذا تمويت, أي حكم بالموت, لا موت حقيقةً, وعلى ذلك فإنّه يرثه من ورثته من كان حيّاً في ذلك الوقت, دون من مات قبل ذلك. وأمّا الموت التّقديري: فهو للجنين الّذي أسقط ميّتاً بجناية على أمّه. كما إذا ضرب إنسان امرأةً, فأسقطت جنيناً ميّتاً فإنّه يجب على الجاني أو عاقلته الغرّة " دية الجنين " وهذه الدّية تكون لورثة الجنين على فرائض اللّه تعالى, حيث يقدّر حيّاً في بطن أمّه قبل الجناية ثمّ موته منها.
تتعلّق بالموت أحكام منها: 10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الموت هادم لأساس التّكليف, لأنّه عجزٌ كله عن إتيان العبادات أداءً وقضاءً, ولأنّ الميّت قد ذهب من دار الابتلاء إلى دار الجزاء, قال ابن نجيم: إنّ الموت ينافي أحكام الدنيا ممّا فيه تكليف, لأنّ التّكليف يعتمد القدرة والموت عجزٌ كله. وحيث إنّ الذّمّة خاصّة من الخصائص الإنسانيّة فإنّها تبدأ مع الشّخص منذ الحمل به, وتبقى معه طيلة حياته, فإذا مات خربت ذمّته وانتهت أهليّته. غير أنّ الفقهاء اختلفوا هل تخرب الذّمّة وتنتهي فوراً بمجرّد حصول الموت, أم أنّ الموت يضعفها, أم أنّها تبقى كما هي بعد الموت حتّى تستوفى الحقوق من التّركة ؟ وذلك على ثلاثة مذاهب ينظر تفصيلها في (ذمّة ف / 6 - 9).
11 - لا خلاف بين أهل العلم في انقطاع عمل ابن آدم بموته في الجملة, لأنّ الموت عجزٌ كامل عن إتيان العبادات أداءً وقضاءً, ولأنّ الميّت قد ارتحل من دار الابتلاء والتّكليف إلى دار الجزاء, ولكنّه ينتفع بما تسبّب إليه في حياته من عمل صالح, لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلّا من ثلاثة: إلّا من صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له»، وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إنّ ممّا يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علّمه ونشره, أو ولداً صالحاً تركه, أو مصحفاً ورّثه, أو مسجداً بناه, أو بيتاً لابن السّبيل بناه, - أو نهراً أجراه, أو صدقةً أخرجها من ماله في صحّته وحياته يلحقه من بعد موته»، وروى جرير بن عبد اللّه رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً, فله أجرها وأجر من عمل بها بعده, من غير أن ينقص من أجورهم شيء, ومن سنّ في الإسلام سنّةً سيّئةً, كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده, من غير أن ينقص من أوزارهم شيء». أمّا انتفاعه بغير ما تسبّب إليه في حياته من عمل صالح, فقد فرّق الفقهاء في ذلك بين أمرين: أ - دعاء المسلمين له واستغفارهم, وفي ذلك قال النّووي: أجمع العلماء على أنّ الدعاء للأموات ينفعهم ويصلهم ثوابه, واحتجوا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}, وغير ذلك من الآيات المشهورة بمعناها, وبالأحاديث المشهورة كقوله صلى الله عليه وسلم: «اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد» وكقوله: «اللّهمّ اغفر لحيِّنا وميّتنا». ب - ما جعل الأحياء ثوابه للميّت من الأعمال الأخرى كالحجّ والصّدقة والصّوم والصّلاة وتلاوة القرآن ونحو ذلك, فقد اختلف الفقهاء في مشروعيّة كلّ واحد منها ووصوله للميّت. وتفصيل ذلك في مصطلح (أداء ف / 14, وقراءة ف / 18، وقربة ف / 11).
12 - ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «ما من أحد مرّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا, فسلّم عليه إلّا عرفه وردّ عليه السّلام»، وورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّه أمر بقتلى بدر, فألقوا في قليب, ثمّ جاء حتّى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم: يا فلان ابن فلان, ويا فلان ابن فلان, هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً, فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقاً, فقال له عمر: يا رسول اللّه, ما تخاطب من أقوام قد جيّفوا, فقال عليه الصلاة والسلام: والّذي بعثني بالحقّ, ما أنتم بأسمع لما أقول منهم, ولكنّهم لا يستطيعون جواباً»، وورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه إنّه ليسمع قرع نعالهم»، ولهذا أمر النّبي صلى الله عليه وسلم بالسّلام على الموتى, حيث جاء أنّه صلى الله عليه وسلم كان يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين, وإنّا إن شاء اللّه بكم للاحقون». قال ابن القيّم: وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل, ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد, والسّلف مجمعون على هذا, وقد تواترت الآثار بأنّ الميّت يعرف زيارة الحيّ له ويستبشر به. وجاء في فتاوى العزّ بن عبد السّلام: والظّاهر أنّ الميّت يعرف الزّائر, لأنّا أمرنا بالسّلام عليهم, والشّرع لا يأمر بخطاب من لا يسمع.
13 - المراد بالبرزخ هاهنا: الحاجز بين الدنيا والآخرة, قال العلماء: وله زمان ومكان وحال, فزمانه من حين الموت إلى يوم القيامة, وحاله الأرواح, ومكانه من القبر إلى علّيّين لأرواح أهل السّعادة, أمّا أهل الشّقاوة فلا تفتح لأرواحهم أبواب السّماء, بل هي في سجّين مسجونة, وبلعنة اللّه مصفودة, قال ابن القيّم: إنّه ينبغي أن يعلم أنّ عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب, البرزخ ونعيمه, وهو ما بين الدنيا والآخرة. قال تعالى: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. هذا وقد اختلف العلماء في السؤال في القبر, هل يقع على البدن أم على الروح أو عليهما معاً, وذلك على أربعة أقوال: الأوّل: لجمهور علماء أهل السنّة, وهو أنّ الروح تعاد إلى الجسد أو بعضه, ولا يمنع من ذلك كون الميّت قد تتفرّق أجزاؤه, لأنّ اللّه قادر على أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد, ويقع عليه السؤال, كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه, قال ابن حجر الهيتمي: ويجوز أن ترجع الروح في حال آخر وأمر ثان, وبعودها يرجع الميّت حيّاً, وهو المعبَّر عنه بحياة القبر عند إتيان الملكين للسؤال, فإذا ردَّت إليه الحياة, للجسم والروح, تبعتها الإدراكات المشروطة بها, فيتوجّه حينئذٍ على الميّت السؤال, ويتصوَّر منه الجواب. وقال ابن تيميّة: عود الروح إلى بدن الميّت في القبر ليس مثل عودها إليه في هذه الحياة الدنيا, وإن كان ذلك قد يكون أكمل من بعض الوجوه, كما أنّ النّشأة الأخرى ليس مثل هذه النّشأة, وإن كانت أكمل منها, بل كل موطن في هذه الدّار وفي البرزخ والقيامة له حكم يخصُّه. وقال ابن حجر العسقلاني: المراد بالحياة في القبر للمسألة ليست الحياة المستقرّة المعهودة في الدنيا الّتي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبيره وتصرفه, وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء, بل هي مجرّد إعادة لفائدة الامتحان الّذي وردت به الأحاديث الصّحيحة, فهي إعادة عارضة. الثّاني: لأبي حنيفة والغزاليّ: وهو التّوقف. قال الغنيميّ الحنفي: واعلم أنّ أهل الحقّ اتّفقوا على أنّ اللّه يخلق في الميّت نوع حياة في القبر, قدر ما يتألّم ويلتذَّ, لكن اختلفوا في أنّه هل تعاد الروح إليه أم لا ؟ والمنقول عن الإمام أبي حنيفة التّوقف, وقال الغزالي: ولا يبعد أن تعاد الروح إلى الجسد في القبر, ولا يبعد أن تؤخّر إلى يوم البعث, واللّه أعلم بما حكم به على عبد من عباده. الثّالث: لابن جرير وجماعة, وهو أنّه يقع على البدن فقط, وأنّ اللّه يخلق فيه إدراكاً بحيث يسمع ويعلم ويلتذ ويألم. الرّابع: لابن هبيرة وغيره: وهو أنّ السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسد. 14 - وقد تفرّع عن ذلك الخلاف اختلاف العلماء في نعيم القبر وعذابه في الحياة البرزخيّة, هل يقع على الروح فقط أم على الجسد أم على كليهما ؟ فذهب ابن هبيرة والغزالي إلى أنّ التّنعيم والتّعذيب إنّما هو على الروح وحدها. وقال جمهور أهل السنّة والجماعة من المتكلّمين والفقهاء: هو على الروح والجسد. قال النّووي: النّعيم والعذاب للجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إليه أو إلى جزء منه, وقال ابن تيميّة: العذاب والنّعيم على النّفس والبدن جميعاً باتّفاق أهل السنّة والجماعة, تنعّم النّفس وتعذّب منفردةً عن البدن, وتعذّب متّصلةً بالبدن, والبدن متّصل بها, فيكون النّعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين, كما يكون للروح منفردةً عن البدن. وذهب ابن جرير إلى أنّ الميّت يعذّب في قبره من غير أن تردّ الروح إليه, ويحس بالألم وإن كان غير حي.
15 - قال ابن القيّم: إنّ اللّه جعل الدور ثلاثاً: دار الدنيا, ودار البرزخ, ودار القرار, وجعل لكلّ دار أحكاماً تختص بها, وركّب هذا الإنسان من بدن وروح, وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبعاً لها, ولهذا جعل أحكامه الشّرعيّة مرتّبةً على ما يظهر من حركات اللّسان والجوارح, وإن أضمرت النّفوس خلافه, وجعل أحكام البرزخ على الأرواح, والأبدان تبعاً لها, فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا, فتألّمت بألمها والتذّت براحتها, فإنّ الأبدان تتبع الأرواح في أحكام البرزخ في نعيمها وعذابها حتّى إذا كان يوم القيامة أعيدت الأرواح إلى الأجساد, وقاموا من قبورهم لربّ العالمين. والبرزخ هو أوّل دار الجزاء, وعذاب البرزخ ونعيمه أوّل عذاب الآخرة ونعيمها, وهو مشتق منه, وواصل إلى أهل البرزخ, يدل على ذلك ما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في نعيم القبر وعذابه بعد سؤال الملكين: «فينادي مناد من السّماء - في حقّ المؤمن الصّادق - أن صَدَق عبدي, فافرشوه من الجنّة, وافتحوا له باباً إلى الجنّة, وألبسوه من الجنّة. قال: فيأتيه من روحها وطيبها, ويُفتح له فيها مدَّ بصره». أمّا في حقّ الكافر: «فينادي منادٍ من السّماء: أن كذب, فافرشوه من النّار, وألبسوه من النّار, وافتحوا له باباً إلى النّار. قال: فيأتيه من حرِّها وسمومها, ويضيّق عليه قبره, حتّى تختلف فيه أضلاعه». وقد اختلف العلماء في مستقرّ أرواح الموتى ما بين الموت إلى يوم القيامة, هل هي في السّماء أم في الأرض, وهل هي في الجنّة والنّار أم لا, وهل تودع في أجساد أم تكون مجرّدةً ؟ فهذه من المسائل العظام قد تكلّم فيها النّاس, وهي إنّما تتلقّى من السّمع فقط. قال الحافظ ابن حجر: إنّ أرواح المؤمنين في علّيّين, وأرواح الكفّار في سجِّين, ولكلّ روح اتّصال, وهو اتّصال معنويّ لا يشبه الاتّصال في الحياة الدنيا, بل أشبه شيء به حال النّائم انفصالاً, وشبَّهه بعضهم بالشّمس, أي بشعاع الشّمس, وهذا مجمع ما افترق من الأخبار أنّ محلَّ الأرواح في علّيِّين وفي سجّين, ومن كون أفنية الأرواح عند أفنية قبورهم, كما نقله ابن عبد البرّ عن الجمهور.
16 - الحقوق الماليّة المحضة: هي ما تستحيل في النّهاية إلى مال مثل الديون في ذمم الغرماء, وحق حبس المبيع لاستيفاء الثّمن وحق حبس الرّهن لاستيفاء الدّين وحق الدّية والأرش في الأطراف وحقوق الارتفاق وبيان ذلك فيما يلي: 17 - لا خلاف بين الفقهاء في عدم تأثير موت الدّائن على الديون الّتي وجبت له في ذمّة الغرماء, وأنّها تنتقل إلى ورثته كسائر الأموال الّتي تركها, لأنَّ الديون في الذّمم أموال حقيقةً أو حكماً باعتبارها تئُول إلى مال عند الاستيفاء. 18 - واستثنى الحنفيّة من ذلك دين نفقة الزّوجة, سواء تقرّر بالتّراضي أو بقضاء القاضي, وقالوا إنّه يسقط بموت الزّوجة قبل قبضه, لأنّ النّفقة صلة, والصّلات عندهم لا تتمُّ إلّا بالتّسليم, وتسقط بالموت قبله, إلّا إذا استدانت النّفقة بأمر القاضي, فعندئذٍ لا تسقط بموتها, بل تنتقل إلى ورثتها, وكذلك دين نفقة الأقارب, فإنّه يسقط عندهم بموت من وجب له قبل قبضه, لأنّ هذه النّفقة إنّما وجبت كفايةً للحاجة... إلّا إذا أذن القاضي لمن وجبت له بالاستدانة واستدان, فعندئذٍ لا تسقط بموته, بل تنتقل إلى ورثته, وهذا قول لبعض الحنابلة أيضاً في دين نفقة الأقارب. أمّا جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة فقد قالوا: إنّ دين نفقة الزّوجة دين صحيح, سواء وجب بالتّراضي أو بقضاء القاضي, ولا يسقط بموتها قبل تسلمه, بل ينتقل إلى ورثتها كسائر الديون, أمّا نفقة الأقارب, فإنّ وجوبها على سبيل المواساة وسدّ الخلّة, وهي مجرّد إمتاع فلا تصير ديناً إلّا إذا فرضها القاضي, فحينئذٍ تثبت لمن وجبت له, ولا تسقط بموته قبل قبضها, بل تنتقل إلى ورثته. 19 - والديون عند جمهور الفقهاء تنتقل إلى الورثة بالصّفة الّتي كانت عليها حال حياة الدّائن, فما كان منها حالاً انتفل إلى الورثة حالاً, وما كان منها مؤجّلاً أو مقسّطاً انتقل كما هو مؤخّراً إلى أجله, حيث إنّ الأجل عندهم لا يسقط بموت الدّائن. وحكي عن اللّيث والشّعبيّ والنّخعيّ أنّ كلّ من مات وله دين مؤجّل, فإنّه ينتقل بعد موته إلى ورثته حالاً, ويبطل الأجل بوفاته.
20 - الدّية والأرش كلاهما حق ماليّ يجب للمجنيّ عليه بدل الجناية عليه. ويطلق الفقهاء الدّية على المال الّذي هو بدل النّفس, والأرش على المال الواجب على ما دون النّفس من الأطراف. والتّفصيل في مصطلح (ديات ف 4 وما بعدها, أرشٌ ف / 1). ومن المقرّر فقهاً أنّ الدّية والأرش تكونان على الجاني في جناية العمد, وعلى عاقلته في الخطأ, ولكن إذا حدث أن مات المجني عليه بسبب الجناية عليه أو توفّي بعد ما وجب له الحق في الأرش, فما هو مصير هذا الحقّ هل يعتبر ملكاً له, ومن جملة أمواله, بحيث تقضى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه, وما بقي بعد ذلك يكون لورثته على فرائض اللّه تعالى, أم أنّه يسقط حقه في تملكه, ويكون لورثته دونه, بحيث لا توفّى منه ديونه ولا ينفذه منه شيء من وصاياه ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: أحدهما: لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في المعتمد, وهو أنّ دِيَّة العمد والخطأ مال يحدثُ على ملك الميّت, لأنّها بدل نفسه, ونفسه له, فكذلك بدلها, ولأنّ بدل أطرافه في حال حياته له, فكذلك بدلها بعد موته, ويجوز تجدد الملك له بعد موته, كمن نصب شبكةً ونحوها فسقط بها صيد بعد موته... وعلى ذلك: فإنّه تسدُّد منها ديونه, وتنفّذ منها وصاياه, وتقضى منها سائر حوائجه من تجهيز ونحوه, ثمّ ما يبقى بعد ذلك منها فإنّه يكون لورثته حسب قواعد الإرث. واحتجوا على ذلك بما روي «أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه نشد النّاس بمنى: من كان عنده علم من الدّية أن يخبرني, فقام الضّحّاك بن سفيان الكلابيّ فقال: كتب إليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أورّث امرأة أشيم الضّبابيّ من دية زوجها... فقضى عمر بذلك. قال ابن شهاب: وكان أشيم قتل خطأً». قال الباجيّ: اقتضى ذلك تعلق هذا الحكم بقتل الخطأ, إلّا أنّ دية العمد محمولة عند جميع فقهاء الأمصار على ذلك, ولم يفرّق أحد منهم علمناه في ذلك بين دية العمد والخطأ, وأنّها كسائر مال الميّت, يرث منها الزّوج والزّوجة والإخوة للأمّ وغيرهم, وهذا مرويّ عن عمر وعلي وشريح والشّعبيّ والنّخعيّ والزهريّ. وعلَّق الإمام الشّافعي على أثر عمر وقضائه بقوله: ولا اختلاف بين أحد في أن يرث الدّية في العمد والخطأ من ورث ما سواها من مال الميّت, لأنّها تملك عن الميّت, وبهذا نأخذ, فنورِّث الدّية في العمد والخطأ من ورث ما سواها من مال الميّت, وإذا مات المجني عليه وقد وجبت ديته, فمن مات من ورثته بعد موته كانت له حصّته من ديته, كأنّ رجلاً جُني عليه في صدر النّهار فمات, ومات ابن له في آخر النّهار, فأخذت دية أبيه في ثلاث سنين, فميراث الابن الّذي عاش بعده ساعةً قائم في ديته, كما يثبت في دين لو كان لأبيه, وكذلك امرأته وغيرها ممّن يرثه إذا مات. والثّاني: لإسحاق وأبي ثور وأحمد في رواية عنه, وهو قول عند الشّافعيّة وروي عن مكحول وشريك وهو أنّ الدّية تثبت للورثة ابتداءً, ولا تكون ملكاً للميّت أصلاً, إذ المقتول لا تجب ديته إلّا بعد موته, وإذا مات فقد بطل ملكه, ولهذا لا يصح أن تقضى منها ديونه, ولا أن تنفّذ منها وصاياه. وقد جاء في استدلالهم على ما ذهبوا إليه: أنّ الدّية مال حدث للأهل بعد موت مورّثهم, ولم يرثوه عنه قط, إذ لم يجب له شيء منه في حياته, فكان من الباطل أن يقضى دينه من مال الورثة الّذي لم يملكه هو قطٌّ في حياته, وأن تنفّذ منه وصيّته... ثمّ إنّه بالموت تزول أملاك الميّت الثّابتة له, فكيف يتجدّد له بعد ذلك ملك ؟ ولهذا لا تنفّذ وصيّته من مال الدّية, لأنّ الميّت إنّما يوصي بجزء من مال لا بمال ورثته.
21 - حق الارتفاق عبارة عن حق مقرّر على عقار لمنفعة عقار آخر مملوك لغير مالك العقار الأوّل, وتشمل حقوق الارتفاق عند الفقهاء: حقّ الشّرب, وحقّ المجرى, وحقّ المسيل, وحقّ المرور, وحقّ التّعلّي, وحقّ الجوار. وحقوق الارتفاق ليست بمفردها مالاً عند الحنفيّة, لأنّها أمور لا يمكن حوزها وادّخارها, ولذلك قالوا بعدم جواز بيعها وإجارتها وهبتها استقلالاً, ولكنّهم يعتبرونها حقوقاً ماليّةً لتعلقها بأعيان ماليّة, ومن هنا أجازوا بيعها تبعاً للعقار الّذي ثبتت لمنفعته. أمّا جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة فقد اعتبروها من قبيل الأموال, وأجازوا - في الجملة - بيعها وهبتها استقلالاً. ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ هذه الحقوق لا تسقط بموت صاحب الحقّ, بل تنتقل إلى ورثته تبعاً للعقار الّذي ثبتت لمصلحته, لأنّه حقوق ماليّة, فيها معنى المال, وهي متعلّقة بأعيان ماليّة, ولهذا فلا تأثير للموت عليها, سواء قيل إنّها أموال ذاتها أو حقوق متعلّقة بأعيان ماليّة. 22 - الرّهن هو المال الّذي يجعل وثيقةً بالدّين, ليستوفى من ثمنه إن تعذّر استيفاؤه ممّن هو عليه. وبهذه الوثيقة يصير المرتهن أحقّ بالرّهن من سائر الغرماء بحيث إذا كان على الرّاهن ديون أخرى لا تفي بها أمواله, وبيع الرّهن لسداد ما عليه, كان للمرتهن أن يستوفي دينه من ثمنه أوّلاً, فإن بقي شيء فهو لبقيّة الغرماء. وقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ حقوق المرتهن لا تبطل بموته, بل تنتقل إلى ورثته, وعلى ذلك: فالميّت الّذي له دين به رهن, فإنّه ينتقل إلى ورثته برهنه, وتبقى العين رهناً عندهم, وتتعلّق بها سائر حقوق المرتهن المعروفة عند الفقهاء. 23 - واختلف الفقهاء في تأثير الموت على حقوق المرتهن إذا مات قبل قبض الرّهن, هل تنتقل إلى ورثته أم تسقط بوفاته ؟ وذلك على قولين: أحدهما: لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّ الرّهن يبطل بموت المرتهن قبل قبض العين المرهونة, ولا ينتفل إلى ورثته, لأنّ الرّهن لا يلزم عندهم إلّا بالقبض, فإن مات المرتهن قبل أن يلزم عقد الرّهن, فإنّه يبطل. والثّاني: للمالكيّة: وهو أنّ حقوق المرتهن تنتقل إلى ورثته, ويجبر الرّاهن على إقباضهم العين المرهونة متى طلبوا ذلك, إلّا أن يتراخى الإقباض حتّى يفلس الرّاهن أو يمرض أو يموت, وذلك لأنّ الرّهن عند المالكيّة يلزم بمجرّد العقد دون توقف على قبض.
24 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ للبائع حقّ حبس المبيع والامتناع عن تسليمه للمشتري حتّى يستوفي ثمنه إذا كان حالاً, أو القدر الحالّ منه إذا كان بعضه مؤجّلاً, أمّا إذا كان الثّمن مؤجّلاً, فليس للبائع حق الحبس, اعتباراً لتراضيهما على تأخيره. أمّا عند الحنابلة فليس للبائع حق حبس المبيع حتّى يستوفي ثمنه إذا كان الثّمن ديناً حالاً, أي مالاً غير معيّن ولا مؤجّل, وكان حاضراً معه في المجلس, أمّا إذا كان الثّمن غائباً عن المجلس, فللبائع حبس المبيع لقبض الثّمن. ولمّا كان حق البائع في حبس المبيع لاستيفاء الثّمن من الحقوق الماليّة, أي المتعلّقة بالمال, فقد نصّ جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة على أنّ صاحب هذا الحقَّ إذا مات, فإنّ حقّه في ذلك لا يسقط بموته بعد تقرره, بل ينتقل إلى ورثته - كسائر أعيانه الماليّة - ولا يكون للموت تأثير في سقوطه بعد ثبوته.
25 - الحقوق الشّخصيّة المحضة هي الّتي تثبت للإنسان باعتبار شخصه وذاته وما يتوفّر فيه من صفاتٍ ومعان تميِّزه عن غيره, مثل حقّ الحضانة, وحقّ الولاية على النّفس والمال, وحقّ المظاهر في العود, وحقّ الفيء بعد الإيلاء, وحقّ أرباب الوظائف في وظائفهم فإنّها تسقط بموت ذويها أو أصحابها ولا تورث عنهم. وينظر التّفصيل في مصطلح (تركة ف / 3 وما بعدها, وظيفة). واختلف الفقهاء في المطالبة بحدّ القذف وبيان تأثير موت المقذوف على هذا الحقّ. وتفصيله في مصطلح (قذف ف / 44). 26 - نظراً إلى أنّ هذه الحقوق تجمع بين شبهين, شبه بالحقّ الماليّ, وشبه بالحقّ الشّخصيّ, فقد اختلف الفقهاء في تغليب أحد الشّبهين على الآخر حتّى تلحق به, وفيما يلي بيان أثر الموت على هذه الحقوق.
27 - يختلف تأثير الموت على حقوق الخيارات بحسب نوع الخيار الثّابت للعاقد وطبيعته واجتهاد الفقهاء في تغليب شبهه بالحقّ الماليّ أو الحقّ الشّخصيّ, وذلك على النّحو التّالي: أ - خيار المجلس: 28 - اختلف الفقهاء القائلون بخيار المجلس في أثر الموت على هذا الخيار على ثلاثة أقوال: أحدها: للشّافعيّة في الأصحّ وهو انتقال الخيار بالموت إلى الوارث. والثّاني: للحنابلة في المذهب, وهو سقوط الخيار بالموت. والثّالث: لبعض الحنابلة, وهو التّفصيل بين وقوع المطالبة من الميّت به في حياته وبين عدم تلك المطالبة, حيث ينتقل الخيار إلى الوارث في الحالة الأولى دون الثّانية. والتّفصيل في (خيار ف / 13). ب - خيار القبول: 29 - خيار القبول: هو حق العاقد في القبول أو عدمه في المجلس بعد صدور الإيجاب من الطّرف الآخر, وقد اختلف الفقهاء في أثر الموت عليه على قولين: أحدهما: للحنفيّة والشّافعيّة, وهو سقوط خيار القبول وانتهاؤه بموت أحد المتعاقدين, لأنّ موت الموجب يسقط إيجابه, وأمّا موت الّذي خوطب بالإيجاب, فلأنّ حقّ القبول لا يورث. والثّاني: للمالكيّة, وهو أنّ خيار القبول يورث ولا يسقط بموت صاحبه. ج - خيار العيب: 35 - خيار العيب: وهو حق المشتري في ردّ المبيع بسبب وجود وصف مذموم فيه ينقص العين أو القيمة نقصاناً يفوت به غرضٌ صحيح, ويغلب في جنسه عدمه. وقد ذهب الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ خيار العيب ينتقل إلى الوارث بموت مستحقّه, وذلك لتعلقه بالأعيان الماليّة ولصوقه بها. قال الشّيرازي: انتقل إلى وارثه لأنّه حق لازم يختص بالعين فانتقل بالموت إلى الوارث كحبس المبيع إلى أن يحضر الثّمن. د - خيار الشّرط: 31 - خيار الشّرط: هو حق يثبت بالاشتراط لأحد المتعاقدين أو كليهما يخوِّل صاحبه فسخ العقد خلال مدّة معلومة. وقد اختلف الفقهاء في سقوطه بموت صاحبه على ثلاثة أقوال. أحدها: للمالكيّة والشّافعيّة وأبي الخطّاب من الحنابلة, وهو أنّه ينتقل إلى الوارث بموت صاحبه, باعتباره من مشتملات التّركة, لأنّه حق ثابت لإصلاح المال, كالرّهن وحبس المبيع لاستيفاء ثمنه. والثّاني: للحنفيّة, وهو أنّه يسقط بموت صاحبه, سواء أكان الخيار للبائع أم للمشتري, وسواء أكان صاحب الخيار أصيلاً أم نائباً, قال الزّيلعي: لأنّ الخيار صفة للميّت, لأنّه ليس هو إلّا مشيئة وإرادة, فلا ينتقل عنه كسائر أوصافه. والثّالث: للحنابلة, وهو التّفصيل بين مطالبة صاحبه به قبل موته وبين عدمها, قالوا: فإذا مات صاحب الخيار دون أن يطالب بحقّه في الخيار بطل الخيار ولم يورث عنه, أمّا إذا طالب به قبل موته فإنّه يورث عنه, فالأصل عندهم أنّ خيار الشّرط غير موروث إلّا بالمطالبة من المشترط في حياته. والتّفصيل في (خيار الشّرط ف / 54). هـ - خيار الرؤية: 32 - خيار الرؤية: هو حقٌّ يثبت للمتملّك الفسخ أو الإمضاء عند رؤية محلَّ العقد المعيَّن الّذي عقد عليه ولم يره. وقد اختلف الفقهاء في سقوطه بموت صاحبه على قولين: أحدهما: للحنفيّة, وهو أنّه يسقط بموت صاحبه ولا ينتقل إلى ورثته, باعتباره لمطلق التّروّي لا لتحاشي الضّرر أو الخلف في الوصف, وغايته أن ينظر المشتري: هل يصلح له المبيع أم لا ؟ ومع اعتبارهم إيّاه خياراً حكميّاً من جهة الثبوت, فقد قالوا: إنّه مرتبطٌ بالإرادة من حيث الاستعمال, والحقوق المرتبطة بمشيئة العاقد لا تورث, لأنّ انتقالها إلى الوارث يعني, نقل الإرادة والمشيئة إليه, وهو مستحيل. والثّاني: للشّافعيّة, وهو أنّه لا يسقط بموت صاحبه, بل ينتقل إلى وارثه. و - خيار فوات الوصف المرغوب: 33 - خيار فوات الوصف المرغوب هو حق المشتري في فسخ العقد لتخلف وصف مرغوب اشترطه في المعقود عليه. وهذا الخيار يورث بموت مستحقّه عند الفقهاء, فينتقل إلى ورثته. والتّفصيل في (خيار فوات الوصف ف / 13). ز - خيار التّعيين: 34 - خيار التّعيين: وهو حقُ العاقد في تعيين أحد الأشياء الّتي وقع العقد على أحدها شائعاً خلال مدّة معيّنة. وقد نصّ الحنفيّة والمالكيّة على أنّ خيار التّعيين لا يسقط بموت صاحبه, بل ينتقل إلى وارثه, فيقوم مقامه في تعيين ما يختاره من محلّ الخيار, ذلك أنّ لمورّثه مالاً ثابتاً ضمن الأشياء الّتي هي محل الخيار, فوجب على الوارث أن يعيِّن ما يختاره ويردَّ ما ليس له إلى مالكه. ح - خيار التّغرير: 35 - خيار التّغرير هو حق المشتري في الفسخ لتعرُّضه لأقوال موهمة من البائع دفعته للتّعاقد, وقد اختلف الحنفيّة في كونه موروثاً, فاستظهر التمرتاشيّ من الحنفيّة - وأقرّه الحصكفيّ - أنّ خيار التّغرير لا ينتقل إلى الوارث, لأنّه من الحقوق المجرّدة, وهي لا تورث. قال ابن عابدين: ويؤيّده ما بحثه في البحر من أنّ خيار ظهور الخيانة لا يورث, لتعليلهم بأنّه مجرّد خيار لا يقابله شيء من الثّمن, بل هناك ما يجعل نفي توريثه بالأولى, لأنّه خيار لدفع الخداع, فإذا كان خيار الشّرط الملفوظ به لا يورث, فكيف يورث غير الملفوظ به مع كونه مختلفاً فيه. وفي رأي أنّه يورث كخيار العيب. ط - خيار النَّقد: 36 - خيار النّقد: هو حقٌّ يشترطه العاقد للتّمكن من الفسخ عند عدم نقد البدل من الطّرف الآخر, وقد نصّ الحنفيّة على أنّه لا يورث, بل يسقط بموت صاحب الخيار, لأنّه وصف له, والأوصاف لا تورث, وأسوة بأصله وهو خيار الشّرط, حيث إنّه لا يورث عندهم. ولم يتعرّض المالكيّة والحنابلة إلى سقوطه أو إرثه, أمّا الشّافعيّة فهو غير جائز عندهم أصلاً. 37 - الشّفعة عبارة عن حقّ التّملك في العقار لدفع ضرر الجوار. وقد اختلف الفقهاء فيما إذا مات صاحب حقّ الشّفعة قبل أن يأخذ بها, هل ينتقل ذلك الحق لورثته, أم يسقط وينتهي بموته ؟ وذلك على ثلاثة أقوال: الأوّل: للشّافعيّة والمالكيّة وأحمد في رواية عنه, وهو أنَّ حقَّ الشّفعة حق ماليّ, فيورث عن الميّت كما تورث أمواله, ويقوم وارثه مقامه في المطالبة به. الثّاني: للحنفيّة, وهو أنّ الشّفيع إذا مات قبل الأخذ بالشّفعة, بطلت شفعته, سواء كان موته قبل الطّلب أو بعده, لأنّ الشّفعة مجرّد خيار في التّملك, وهي إرادة ومشيئة في الأخذ أو التّرك, وذلك لا يورث إلّا إذا مات الشّفيع بعد القضاء بها أو تسليم المشتري له بها. الثّالث: للحنابلة, وهو التّفصيل بين ما إذا مات الشّفيع قبل الطّلب أو بعده, فإن مات قبله مع القدرة عليه بطلت شفعته, لأنّه نوع خيار شرع للتّمليك, أشبه الإيجاب قبل قبوله, ولأنّه لا يعلم بقاؤه على الشّفعة, لاحتمال رغبته عنها, فلا ينتقل إلى الورثة ما شكّ في ثبوته, أمّا إذا مات الشّفيع بعد طلبه, فإنّ الشّفعة تنتقل لورثته, لأنّ الطّلب ينتقل به الملك للشّفيع, فوجب أن يكون موروثاً. والتّفصيل في مصطلح (شفعة ف / 51).
38 - نصّ الحنفيّة على أنّ المالك إذا مات قبل إجازته لعقد الفضوليّ الموقوف على إجازته, فإنَّ حقَّه في الإجازة يبطل بموته, ولا ينتقل إلى ورثته, لأنّ الإجازة إنّما تصح من المالك لا من وارثه, واستثنوا من ذلك تصرف الفضوليّ في القسمة, فمع كونه موقوفاً على إجازة المالك, فإنّ حقّه في الإجازة لا يبطل بموته, بل ينتقل إلى وارثه عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحساناً, لأنّه لا فائدة في نقض القسمة بعد تمامها ثمّ إعادتها مرّةً أخرى, والقياس بطلان القسمة بموته, وعدم انتقالها للوارث, وهو قول الإمام محمّد لأنّ القسمة مبادلة كالبيع.
39 - المنفعة في اصطلاح الفقهاء هي الفائدة العرضيّة الّتي تنال من الأعيان بطريق استعمالها. وقد اختلف الفقهاء في أثر الموت على المنافع الّتي يستحقها الشّخص في - عين من الأعيان بموجب عقد الإجارة أو الإعارة أو الوصيّة بالمنفعة, هل يبطل حقه فيها بالموت أم أنّها تورث عنه ؟ وذلك على النّحو التّالي: أ - الإجارة: 40 - اختلف الفقهاء في أثر الموت على استحقاق المنافع في عقد الإجارة, وذلك على قولين: الأوّل: للشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة وإسحاق والبتّيّ وأبي ثور وابن المنذر وهو أنّ المستأجر إذا مات قبل انقضاء أمد الإجارة, فلا ينفسخ العقد بموته, بل يخلفه وارثه في استيفاء المنفعة إلى نهاية مدّة الإجارة, لأنّ الإجارة عقد لازم, فلا ينفسخ موت العاقد مع سلامة المعقود عليه, ولأنّ المستأجر ملك المنافع بالعقد, وهي مال, فينتقل إلى وارثه. الثّاني: للحنفيّة والثّوريّ واللّيث وهو أنّ عقد الإجارة ينفسخ بموت المستأجر قبل انتهاء مدّة الإجارة, فيسقط حقه في المنافع المعقود عليها, ولا ينتقل إلى ورثته, وذلك لأنّ الوراثة خلافة, ولا يتصوّر ذلك إلّا فيما يبقى زمانين, ليكون ملك المورّث في الوقت الأوّل, ويخلفه الوارث في الوقت الثّاني, والمنفعة الموجودة في حياة المستأجر لا تبقى لتورث, والّتي تحدث بعدها لم تكن مملوكةً له ليخلفه الوارث فيها, إذ الملك لا يسبق الوجود, وإذا ثبت انتفاء الإرث تعيّن بطلان العقد. ب - الإعارة: 41 - اختلف الفقهاء في أثر موت المستعير على استحقاق المنافع في العارية على قولين: أحدهما: للحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو أنّ حقّ المستعير بمنافع العين المعارة حقٌّ شخصيّ, ينتهي بوفاة صاحبه, ولا ينتقل إلى ورثته, وعلى ذلك فإنّ الإعارة تنفسخ بموت المستعير, ويجب على ورثته ردُّ العارية فوراً إلى صاحبها, ولو لم يطلبها. والثّاني: للمالكيّة, وهو أنّ الإعارة سواء كانت مقيّدةً بمدّة معيّنة أو مطلقةً, فإنّ المستعير يستحق الانتفاع بها في المدّة المحدّدة أو الّتي ينتفع بها النّاس عادةً عند الإطلاق, فإن مات المستعير قبل انتهاء تلك المدّة, فإنّ حقّه في المنفعة في المدّة المتبقّية لا يسقط بموته, بل ينتقل إلى ورثته, إلّا في حالة واحدة, وهي ما إذا اشترط المعير عليه أن ينتفع بها بنفسه فقط, فحينئذٍ لا تورث عنه المدّة المتبقّية, لأنّ فيها يعتبر حقاً شخصيّاً. ج - الوصيّة بالمنفعة: 42 - اختلف الفقهاء فيما إذا مات الموصى له بالمنفعة قبل انقضاء أمدها, هل تبطل الوصيّة بالمنفعة بموته, أم أنّ المنفعة تنتقل إلى ورثته حتّى نهاية مدّتها ؟ وذلك على قولين: أحدهما: للحنفيّة, وهو أنّ ما تبقّى من مدّة المنفعة بعد موت الموصى له بها يسقط بموته, ولا يورث عنه, بل تعود العين إلى ورثة الموصي بحكم الملك, وذلك لأنّ الموصي قد أوجب الحقّ للموصى له ليستوفي المنفعة على حكم ملكه, فإذا انتقل هذا الحق إلى ورثة الموصى له بعد موته, فيكون كأنّهم استحقوه ابتداءً من ملك الموصي من غير رضاه, وذلك لا يجوز, ولأنّ المنفعة عرضٌ, والعرض لا يبقى زمانين حتّى يكون محلاً للتّوارث. والثّاني: للشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة, وهو أنّ الموصى له بالمنفعة يملك تلك المنفعة, وعلى ذلك: فإذا مات, فإنّها لا تسقط بموته, بل تنتقل إلى ورثته فيما بقي له من المدّة إذا كانت الوصيّة مقيّدةً بزمن معيّن أو كانت على التّأبيد لأنّها مال, فتورث عنه كسائر أمواله. واستثنوا من ذلك حالة ما إذا كانت الوصيّة بالمنفعة مقيّدةً بحياة الموصى له, ففي هذه الحالة يعتبر حق الموصى له بها حقاً شخصيّاً, فيسقط بوفاته, ولا ينتقل إلى ورثته.
43 - الأجل في الديون حق للمدين, ومن ثبت له هذا الحق فليس للدّائن مطالبته بالدّين قبل حلوله, فإذا مات فهل يبطل الأجل ويحل الدّين بموته, أم يبقى ثابتاً كما هو وينتقل عنه إلى ورثته ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة وأحمد في رواية عنه, وهو أنّ الأجل يسقط, ويحل الدّين بموت المدين, وتنقلب جميع الديون المؤجّلة الّتي عليه مهما اختلفت آجالها حالّةً بموته, وبه قال الشّعبي والنّخعيّ وسوّار والثّوري. قال ابن رشد الحفيد: وحجّتهم أنّ اللّه تعالى لم يبح التّوارث إلّا بعد قضاء الدّين, فالورثة في ذلك أحد أمرين: إمّا أن لا يريدوا أن يؤخّروا حقوقهم في المواريث إلى محلِّ أجل الدّين, فيلزم أن يجعل الدّين حالاً, وإمّا أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتّى تحلَّ الديون, فتكون الديون حينئذٍ مضمونةً في التّركة خاصّةً لا في ذممهم, وقال ابن قدامة: ولأنّه لا يخلو: إمّا أن يبقى في ذمّة الميّت, أو الورثة, أو يتعلّق بالمال, ولا يجوز بقاؤه في ذمّة الميّت لخرابها وتعذر مطالبته بها, ولا ذمّة الورثة لأنّهم لم يلتزموه, ولا رضي صاحب الدّين بذممهم, وهي مختلفة متباينة, ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله, لأنّه ضرر بالميّت وصاحب الدّين ولا نفع للورثة فيه. وقد استثنى المالكيّة من ذلك حالتين, وقالوا: إنّ الدّين المؤجّل لا يحل بالموت فيهما, وهي: أ - إذا قتل إلى الدّائن المدين, فإنّ دينه لا يحلُّ, لأنّه قد استعجله قبل أوانه فعوقب بالحرمان. ب - إذا اشترط المدين على الدّائن أن لا يحلّ الدّين المؤجّل الّذي عليه بموته, فيعمل بالشّرط. والثّاني: للحنابلة في المذهب, وهو أنّ الدّين المؤجّل لا يحلُّ بموت المدين إذا وثَّقه الورثة أو غيرهم برهن أو كفيل مليء بالأقلّ من قيمة التّركة أو الدّين, فإن لم يوثَّق بذلك حلّ, لأنّ الورثة قد لا يكونون أملياء, ولم يرض بهم الغريم, فيؤدّي إلى فوات الحقّ, وهو قول ابن سيرين وعبد اللّه بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد. وحجّتهم على ذلك أنّ الموت ما جعل مبطلاً للحقوق, وإنّما هو ميقات للخلافة, وعلامة على الورثة, وعلى هذا يبقى الدّين في ذمّة الميّت كما كان, ويتعلّق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه, فإن أحبّ الورثة التزام الدّين وأداءه للغريم على أن يتصرّفوا في المال, لم يكن لهم ذلك إلّا أن يرضى الغريم, أو يوثّقوا الحقّ بضمين مليء أو رهن يثق به لوفاء حقّه. والثّالث: رواية عن أحمد اختارها أبو محمّد الجوزي من الحنابلة, وهو أنّ الأجل لا يحل بالموت مطلقاً, وإن لم يوثّق الورثة أو غيرهم الدّين, وذلك لأنّ الأجل حق للميّت, فيورث عنه كسائر حقوقه, وبه قال طاووسٌ وأبو بكر بن محمّد والزهري وسعد بن إبراهيم وحكي عن الحسن.
44 - وهو حق يثبت لمن قام بوضع علاماتٍ في أرض مواتٍ - سواء بنصب أحجار أو غرز أخشاب عليها أو حصاد ما فيها من الحشيش والشّوك ونحو ذلك - ليصير أحقّ النّاس بها لسبق يده عليها, وقد حدّد بعض الفقهاء له أمداً معيّناً ينتهي فيه, بحيث لا يستطيع أحد مزاحمته خلاله, وهو ثلاث سنواتٍ, وجعل بعضهم تحديد المدّة لاجتهاد الحاكم بحسب العرف والعادة. والمتحجّر إذا مات قبل نهاية المدّة المحدّدة لاحتجاره, فهل يسقط حقه بموته, أم أنّه ينتقل في بقيّة المدّة إلى ورثته ؟ نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّ هذا الحقّ يورث, ولا يسقط بموت المتحجّر, ويكون ورثته أحقّ بالأرض من غيرهم. وهو مقتضى مذهب المالكيّة, إذ الأصل عندهم أن تورث الحقوق كالأموال, إلّا إذا قام دليل على مفارقة الحقّ لمعنى المال, وحق التّحجير متعلّق بالمال, لا ينفك عنه, فكان موروثاً.
45 - الأرض الخراجيّة: هي الّتي فرض الخراج على الّذين ينتفعون بها, سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين, والخراج: هو ما يوضع على الأرض غير العشريّة من حقوق تؤدّى عنها إلى بيت المال. ويعتبر الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة الأراضي الخراجيّة موقوفةً على مصالح المسلمين في الجملة, أمّا الحنفيّة فيقولون: هي ملك لأصحابها, ولهم أن يتصرّفوا فيها بسائر وجوه التّصرف الشّرعيّة, وعلى ذلك فإنّها تورث عنهم بالموت كسائر أملاكهم, إذ ليس حق انتفاعهم بها إلّا أثراً من آثار ثبوت ملكيّتهم عليها. وقد ترتّب على قول جمهور الفقهاء بوقفها على مصالح المسلمين أنّ المنتفعين بالأراضي الخراجيّة من الفلّاحين ونحوهم لا يملكونها, ولكن لهم حق الانتفاع بها في مقابل دفع خراجها إلى بيت المال, ثمّ إنّهم اختلفوا في انتقال هذا الحقّ لورثتهم بالموت على قولين: أحدهما: للشّافعيّة والحنابلة ومتأخّري المالكيّة, وهو أنّ حقّ المنفعة بالأراضي الخراجيّة يورث عن صاحبه, فإذا مات المنتفع بها انتقل الحق إلى ورثته, لأنّه حق ماليّ موروثٌ. والثّاني: لمتقدّمي فقهاء المالكيّة, وهو أنّ المنتفع بالأراضي الخراجيّة إذا مات سقط حقه في الانتفاع بها, ولا تورث عنه, ويكون للإمام أن يعطيها من بعده لمن يشاء, بحسب مقتضيات المصلحة العامّة للمسلمين.
46 - نصّ الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة على أنّ للإمام أن يُقطع الأرض من بيت المال على وجه التّمليك لرقبتها كما يعطي المال لمستحقّه, فإذا مات المقطع, فإنّها تنتقل إلى ورثته كسائر أملاكه, سواء عمّرها وأحياها أم لا. أمّا إقطاع الأراضي الموات لإحيائها, فقد اختلف الفقهاء في حكمه وفي انتقال الحقّ فيه إلى الوارث بموت صاحبه, وذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: للشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّه لا يفيد الملك للمقطع إلّا بالإحياء, ولكنّه يكون أحقّ بها من غيره قبل الإحياء, وهذا الحق ينتقل لورثته بعد موته. والثّاني: للحنفيّة, وهو أنّ للإمام أن يقطع كلّ مواتٍ وكلّ ما ليس فيه ملك لأحد, فإن عمّرها المقطع وأحياها صارت ملكاً له, وتورث عنه كسائر أملاكه, أمّا إذا لم يحيها ولم يعمّرها طيلة ثلاثة سنواتٍ, فإنّ حقّه فيها يبطل, وتعود إلى حالها مواتاً, وللإمام أن يعطيها غيره. والثّالث: للمالكيّة, وهو أنّ إقطاع الموات تمليك مجرّد, فمن أقطعه الإمام شيئاً صار ملكاً له وإن لم يحيه ويعمّره, وبالموت ينتقل إلى ورثته كسائر أملاكه. أمّا بالنّسبة لإقطاع الاستغلال الّذي يقع على أراضي بيت المال لمن له فيه حق, على سبيل استغلالها لا تمليكها فقد ذكر الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة أنّ للإمام أن يعطي الأرض التّابعة لبيت المال منفعةً, بحيث يكون المعطى مستحقاً لمنفعتها دون رقبتها وحق الانتفاع بها يعتبر حقاً شخصيّاً, فيسقط بوفاة صاحبه ولا يورث عنه, لأنّه مقيّد عرفاً بحياة المقطع, وترجع الأرض المقطعة بموته لبيت المال وقفاً على ما هي عليه.
47 - الاختصاص هو حق في شيء, يختص مستحقه بالانتفاع به, ولا يملك أحد مزاحمته فيه, وهو غير قابل للشّمول والمعاوضات. ومن صور الاختصاص بالأعيان النّجسة عند الشّافعيّة والحنابلة: الكلب المباح اقتناؤه ككلب الحراسة والصّيد والزيوت والأدهان المتنجّسة الّتي يجوز الانتفاع بها بالاستصباح أو بتحويلها إلى صابون ونحو ذلك, والاختصاص بهذه الأشياء ونحوها لا يفيد الملك عندهم, ولكنّه يعطي صاحبه حقّ الانتفاع المحدود بها في الوجوه السّائغة شرعاً. وهذا الحق ينتقل بالموت إلى ورثة صاحب الاختصاص ولا يسقط بموته. أمّا الحنفيّة وبعض المالكيّة فإنّهم يعتبرون الأعيان النّجسة أو المتنجّسة الّتي أبيح الانتفاع بها شرعاً مالاً متقوّماً, كالسّرجين والبعر وكلاب الماشية والصّيد ونحوها, وعلى ذلك فإنّها تورث عن صاحبها بموته كسائر أمواله.
48 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ القود لا يجب إلّا في القتل العمد بعد اجتماع شروطه, وأنّه حق الورثة (أولياء الدّم), ولكنّهم اختلفوا في ذلك الحقّ هل يثبت لهم ابتداءً أم بطريق الإرث عن المجنيّ عليه ؟ ومن هم الّذين يستحقونه منهم ؟ وذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: للحنابلة والشّافعيّة في الأصحّ وأبي يوسف ومحمّد وهو أنّ حقّ القصاص يثبت للمجنيّ عليه أوّلاً بسبب الجناية عليه, ثمّ ينتقل إلى ورثته جميعهم, الرّجال والنّساء والكبار الصّغار, من ذوي الأنساب والأسباب, كسائر أمواله وأملاكه, وهو قول عطاء والنّخعيّ والحكم وحمّاد والثّوريّ. وعلى ذلك, فمتى انتقل الحق للورثة, فهم بالخيار: إن شاءوا اقتصوا, وإن شاءوا عفوا, وإذا عفا أحدهم عن حقّه في القصاص سقط حق الباقين فيه, لأنّه لا يتجزّأ, وينقلب نصيب الباقين مالاً, ولا يكون للعافي شيء منه, ولأنّه أسقط حقّه مجّاناً برضاه. وإذا انقلب القصاص إلى مال بعفو الورثة إليه, فإنّ ذلك المال يكون للموروث أوّلاً, فتقضى منه ديونه, وتنفذ منه وصاياه, وما بقي يكون لورثته. والثّاني: للمالكيّة والشّافعيّة في قول وأحمد في رواية عنه اختارها ابن تيميّة وهو أنّ القصاص حق للمجنيّ عليه ابتداءً ثمّ ينتقل إلى العصبات الذكور من ورثته خاصّةً, لأنّه ثبت لدفع العار, فاختصّ به العصبات, كولاية النّكاح. والثّالث: لأبي حنيفة وهو أنّ القصاص ليس موروثاً عن المجنيّ عليه, بل هو ثابت ابتداءً للورثة, لأنّ الغرض منه التّشفّي ودرك الثّأر, والميّت لا يجب له إلّا ما يصلح لحاجته من تجهيزه وقضاء دينه وتنفيذ وصيّته, والقصاص لا يصلح لشيء من ذلك, ثمّ إنّ الجناية قد وقعت على ورثته من وجهٍ, لانتفاعهم بحياته, فإنّهم كانوا يستأنسون به وينتصرون, وينتفعون بماله عند الحاجة, ولذا وجب القصاص للورثة ابتداءً, لحصول التّشفّي لهم ولوقوع الجناية على حقّهم, لا أن يثبت للميّت ثمّ ينتقل إليهم حتّى يجري فيه التّوارث كما في سائر حقوقه, ولكن إذا انقلب ذلك الحق مالاً, فإنّه يصير عندئذٍ موروثاً, لأنّ ثبوت القصاص حقاً للورثة ابتداءً إنّما كان لضرورة عدم صلوحه لحاجة الميّت, فإذا انقلب مالاً بالصلح عليه أو العفو إلى الدّية - والمال يصلح لحوائج الميّت من التّجهيز وقضاء الديون وتنفيذ الوصايا - ارتفعت الضّرورة, وصار الواجب كأنّه هو المال, إذ الخَلَفُ إنّما يجب بالسّبب الّذي يجب به الأصل, فيثبت الفاضل عن حوائج الميّت لورثته خلافةً لا أصالةً. أمّا حق القصاص فيما دون النّفس, فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يورث عن المجنيّ عليه ولا يسقط بوفاته قبل استيفائه, وثبوته لورثته إنّما هو على سبيل الميراث عنه لا ابتداءً, وهناك رواية عن الإمام أحمد أنّ حقّ القصاص في الأطراف لا ينتقل إلى الورثة إلّا إذا طالب به المجني عليه قبل موته, أمّا إذا لم يطالب فيه, فإنّه يسقط وينتهي بوفاته. 49 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ قبول الوصيّة من الموصى له المعيّن شرطٌ لثبوت الملك له, وأنّ له الحقّ في قبوله أو ردّها بحسب مشيئته. ولكن إذا مات الموصى له بعد الموصي وقبل صدور القبول أو الرّدّ منه, فهل ينتقل ذلك الحق لورثته أم يسقط بموته ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: الأوّل: للشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة, وهو أنّ حقّ القبول أو الرّدّ في الوصيّة ينتقل لورثة الموصى له إذا مات بعد الموصي من غير قبول أو رد, لأنّه حق موروثٌ, فلا يسقط بموته, بل يثبت للورثة, فإن شاءوا قبلوا وإن شاءوا ردُّوا. واستثنى المالكيّة من ذلك ما إذا كانت الوصيّة له بعينه وشخصه, فحينئذٍ تسقط بموته, ولا ينتقل ذلك الحق إلى ورثته. الثّاني: للحنفيّة وبعض المالكيّة, وهو أنّ الموصى له إذا مات قبل القبول أو الرّدّ بعد وفاة الموصي, فإنّ الموصى به يدخل في ملكه دون حاجة إلى قبول الورثة, لأنّ القبول عندهم هو عبارة عن عدم الرّدّ, فمتى وقع اليأس عن ردّ الموصى له أعتبر قابلاً حكماً. الثّالث: للأبهريّ من المالكيّة وأحمد في رواية عنه أخذ بها ابن حامد ووصفها القاضي بأنّها قياس المذهب, وهي أنّ الوصيّة تبطل بموت الموصى له قبل قبوله, لأنّها عقد يفتقر إلى القبول, فإذا مات من له حق القبول قبله بطل العقد, كالهبة, ولأنّه خيار لا يعتاض عنه, فيبطل بالموت, كخيار المجلس والشّرط وخيار الأخذ بالشّفعة.
50 - اختلف الفقهاء فيما إذا مات الموهوب له قبل القبول, هل تبطل الهبة بموته, أم أنّ حقّ القبول ينتقل إلى ورثته ؟ وذلك على قولين: أحدهما: للحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّ الموهوب له إذا مات قبل القبول بطلت الهبة, ولم يكن لورثته حق القبول من بعده, أشبه ما لو أوجب البيع فمات المشتري قبل القبول. وإذا مات بعد القبول وقبل القبض, فإنّ الهبة تبطل أيضاً عند الحنفيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة, لأنّها لا تلزم ولا ينتقل الملك فيها إلّا بالقبض, وقد انعدم ذلك بموت الموهوب له قبله, ولأنّ الهبة صلة, والصّلات تبطل بالموت قبل القبض, ولأنّها عقد جائزٌ قبله, فبطل بموت أحد العاقدين, كالوكالة والشّركة. وخالفهم في ذلك الشّافعيّة في المعتمد, حيث نصوا على عدم انفساخ الهبة بموت المتّهب قبل القبض, لأنّه عقد يئُول إلى اللزوم, فلم يبطل بالموت, كالبيع بشرط الخيار, ويقوم وارث المتّهب مقام مورّثه في القبض. والثّاني: للمالكيّة, وهو أنّ الموهوب له إذا مات ولم يكن يعلم بالهبة, فإنّها لا تبطل, ويقوم ورثته مقامه في القبول أو الرّدّ, إلّا إذا كان الواهب يقصد شخص الموهوب له وذاته لفظاً أو بدلالة, قرائن الأحوال, فحينئذٍ تبطل الهبة بموته قبل القبول, لأنّ الحقّ ههنا شخصيّ, فينتهي بموت صاحبه, ولا ينتقل إلى ورثته. أمّا إذا مات الموهوب له بعد علمه بالهبة, ولم يظهر منه رد حتّى مات, فإنّه يعتبر قابلاً حكماً, ويقوم ورثته مقامه في القبض, وكذا إذا قبل صراحةً, ولكنّه لم يقبض الهبة حتّى وافته المنيّة, فيورث عنه حق قبضها.
51 - ذهب جماهير الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة وغيرهم إلى أنّ حقّ الواهب في الرجوع في الهبة يسقط بموته, ولا ينتقل إلى ورثته من بعده لأنّ الخيار في الرجوع فيها حقٌّ شخصيّ للواهب, ثبت له لمعان وأوصاف ذاتيّة فيه, والحق الشّخصي لا يورث. ثمّ إنّ الشّارع إنّما أوجب هذا الحقِّ للواهب, والوارث ليس بواهب. وأيضاً هو حق مجرِّد, والحقوق المجرّدة لا تورث ابتداءً, وإنّما تورث تبعاً للمال, وورثة الواهب لا يرثون العين الموهوبة الّتي هي مال, فلا يرثون ما يتعلّق بها من حقّ الرجوع.
هناك التزامات ماليّة وغير ماليّة, وسنعرض فيما يلي أثر الموت على كل من هذه الالتزامات:
أ - الزّكاة الواجبة: 52 - اختلف الفقهاء في تأثير الموت على سقوط دين الزّكاة إذا توفّي من وجبت الزّكاة في ماله قبل أدائها, وذلك على ثلاثة أقوال: الأوّل: للشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّه من وجبت عليه الزّكاة وتمكَّن من أدائها, ولم يؤدّها حتّى مات, فإنّها لا تسقط بموته, ويلزم إخراجها من رأس ماله وإن لم يوص بها, وهو مذهب عطاء والحسن البصريّ والزهريّ وقتادة وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر واحتجوا على ذلك بأنّ دين الزّكاة حق ماليّ واجب لزمه حال الحياة, فلم يسقط بموته, كدين العبد. ويفارق الصّلاة, فإنّها عبادة بدنيّة لا تصح الوصيّة بها ولا النّيابة فيها وبعموم قوله تعالى في آية المواريث: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} حيث عمّم سبحانه الديون كلّها, والزّكاة دين قائم للّه تعالى وللمساكين والفقراء والغارمين وسائر من فرضها اللّه تعالى لهم بنصّ الكتاب المبين. وبما ورد عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: «جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر, أفأقضيه عنها ؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: فدين اللّه أحق أن يقضى». فدلَّ ذلك على أنّ حقوق اللّه تعالى أحقُّ أن تُقضى, ودين الزّكاة منها. الثّاني: للحنفيّة, وهو أنّ من مات, وعليه دين زكاة لم يؤدّه في حياته, فإنّه يسقط بموته في أحكام الدنيا, ولا يلزم الورثة بإخراجها من تركته ما لم يوص بذلك, فإن أوصى بأدائها من تركته, فإنّها تخرج من ثلثها كسائر الوصايا, وما زاد على الثلث لا ينفذ إلّا بإجازة الورثة. وهو قول ابن سيرين والشّعبيّ والنّخعيّ وحمّاد بن أبي سليمان وحميد الطّويل وعثمان البتّيّ وسفيان الثّوريّ وغيرهم. وتعليل ذلك أنّ المقصود من حقوق اللّه تعالى إنّما هو الأفعال, إذ بها تظهر الطّاعة والامتثال, وما كان ماليّاً منها, فالمال متعلّق بالمقصود, وهو الفعل, وقد سقطت الأفعال كلها بالموت, لتعذر ظهور طاعته بها في دار التّكليف, فكان الإيصاء بالمال الّذي هو متعلّقها تبرعاً من الميّت ابتداءً, فاعتبر من الثلث. وأيضاً فإنّ الزّكاة وجبت بطريق الصّلة, ألا ترى أنّه لا يقابلها عوضٌ ماليّ, والصّلات تبطل بالموت قبل التّسليم. واستثنى الحنفيّة من ذلك زكاة الزروع والثّمار, فقالوا بعدم سقوطها بالموت قبل الأداء إذا كان الخارج, قائماً, فمن وجب عليه العشر أو نصف العشر فإنّه يؤخذ من تركته إذا مات قبل أدائه. الثّالث: للمالكيّة, وهو أنّ من مات وعليه زكاة لم تؤدّ في حياته, فلا يخلو: إمّا أن تكون تلك الزّكاة حالّةً في العام الحاضر الّذي مات فيه, وإمّا أن تكون عن سنين ماضية فرّط في أداء الزّكاة فيها. الحالة الأولى: فإن كانت الزّكاة حالّةً في العام الحاضر الّذي مات فيه, فإنّها إمّا أن تكون زكاة حرث وثمر وماشية, أو زكاة عين " ذهب أو فضّة ". فإن كانت زكاة أموال ظاهرة كحرث وماشية ونحوها, فإنّها لا تسقط بموته, بل تخرج من رأس ماله مقدّمةً على الكفن والتّجهيز, سواء أوصى بها أو لا, لأنّها من الأموال الظّاهرة. أمّا إذا كانت زكاة عين حاضرةً " من الأموال الباطنة " فإنّها تخرج من رأس المال جبراً عن الورثة, إن اعترف بحلولها وبقائها في ذمّته وأوصى بإخراجها, أمّا إذا اعترف بحلولها, ولم يعترف ببقائها, ولم يوص بإخراجها, فلا يجبر الورثة على إخراجها لا من ثلث تركته ولا من رأس ماله, وإنّما يؤمرون في غير جبر, إلّا أن يتحقّق الورثة من عدم إخراجها, فحينئذٍ تخرج من رأس ماله جبراً. وإذا اعترف ببقائها, وأوصى بإخراجها, أخرجت من الثلث جبراً. وإن اعترف ببقائها ولم يوص بإخراجها, لم يقض عليهم بإخراجها, وإنّما يؤمرون بذلك من غير إجبار لاحتمال أن يكون قد أخرجها قبل موته, فإن علموا عدم إخراجها أجبروا على الإخراج من رأس ماله. الحالة الثّانية: وإذا كانت الزّكاة عن مدّة ماضية, وفرّط في أدائها سواء أكانت زكاة عين أو ماشية أو حرث فيلزم إخراجها من الثلث إن أوصى بها أو اعترف بأنّها باقية في ذمّته. أمّا إذا لم يعترف بذلك ولم يوص بها, فإنّه لا يلزم الورثة إخراجها لا من الثلث ولا من رأس المال. ولو أشهد في صحّته أنّها في ذمّته, وأنّه لم يفرّط, فإنّها تخرج من رأس المال. وإذا أشهد في مرض موته على ذلك تكون بمنزلة الوصيّة, وتخرج من الثلث. ب - صدقة الفطر: 53 - اختلف الفقهاء في تأثير الموت على سقوط صدقة الفطر عمّن وجبت عليه إذا مات قبل أدائها, وذلك على ثلاثة أقوال: الأوّل: للشّافعيّة, والحنابلة, وهو أنّ من وجبت عليه صدقة الفطر, وتمكّن من أدائها, ولم يؤدّها حتّى مات, لم تسقط بموته, بل يجب إخراجها من تركته, وإن لم يوص بها. الثّاني: للحنفيّة, وهو أنّ من وجبت عليه زكاة الفطر إذا مات قبل أدائها فإنّها تسقط بموته في أحكام الدنيا, ولا يلزم ورثته إخراجها من تركته ما لم يوص بها. فإن أوصى بها, فإنّها تخرج من ثلث ماله كسائر الوصايا, وذلك لأنّ صدقة الفطر وجبت بطريق الصّلة, ألا ترى أنّه لا يقابلها عوضٌ ماليّ, والصّلات تبطل بالموت قبل التّسليم. الثّالث: للمالكيّة, وهو أنّ زكاة الفطر الحاضرة إذا مات من وجبت عليه قبل إخراجها, فإنّها تخرج من رأس ماله كزكاة العين, وذلك إن أوصى بها. أمّا إذا لم يوص بها, فإنّ الورثة يؤمرون بإخراجها, لكنّهم لا يجبرون على ذلك. وإذا كانت زكاة الفطر عن سنين ماضية فرّط فيها, ثمّ أوصى بأدائها قبل موته, فإنّها تخرج من ثلث ماله. ولو أشهد في صحّته أنّها بذمّته, فإنّها تخرج من رأس ماله, سواء أوصى بها أم لم يوص. ج - الخراج والعشر: 54 - قال الحنفيّة: لو أنّ أرضاً من أراضي الخراج مات ربها قبل أن يؤخذ منه الخراج, فإنّه لا يؤخذ من تركته, لأنّ الخراج في معنى الصّلة, فيسقط بالموت قبل الاستيفاء, ولا يتحوّل إلى التّركة كالزّكاة, ثمّ إنّ خراج الأرض معتبر بخراج الرّأس, ففي كلّ واحد منهما معنى الصّغار, وكما أنّ خراج الرّأس يسقط بموت من عليه قبل الاستيفاء, فكذلك خراج الأرض, ولا يمكن استيفاؤه من الورثة باعتبار ملكهم, لأنّهم لم يتمكّنوا من الانتفاع بها في السّنة الماضية. ولو مات رب الأرض العشريّة, وفيها زرع, فإنّه يؤخذ منه العشر على حاله, وفي رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة أنّه سوّى بين العشر والخراج, وقال: يسقط بموت ربّ الأرض, وأمّا في ظاهر الرّواية, فالزّرع القائم يصير مشتركاً بين الفقراء ورب الأرض, عشره حق الفقراء, وتسعة أعشاره حق ربّ الأرض, ولهذا لا يعتبر في إيجاب العشر المالك, حتّى يجب في أرض المكاتب والعبد والمدين والصّبيّ والمجنون, فبموت أحد الشّريكين لا يبطل حق الآخر, ولكن يبقى محله, وهذا بخلاف الخراج, حيث إنّ محله الذّمّة, وبموته خرجت ذمّته من أن تكون صالحةً لالتزام الحقوق, والمال لا يقوم مقام الذّمّة فيما طريقه طريق الصِّلة. د - الجزية: 55 - اختلف الفقهاء في سقوط الجزية عن الذّمّيّ إذا مات قبل أدائها على قولين: أحدهما: للحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة, وهو أنّ الجزية إذا وجبت على الذّمّيّ, فإنّها تسقط بموته قبل أدائها, سواء مات بعد الحول أو في أثنائه, ولا تؤخذ من تركته, وذلك لأنّها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود, ولأنّها تسقط أيضاً بإسلامه, فتسقط كذلك بموته. إلّا أنّ الحنفيّة قالوا: إذا أوصى بها فإنّها تخرج من ثلث ماله كسائر الوصايا. والثّاني: للشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّ الذّمّيّ إذا مات بعد الحول, فإنّ الجزية لا تسقط عنه, لأنّها دين وجب عليه في حياته, فلم تسقط بموته, بل تؤخذ من تركته كسائر الديون الماليّة. أمّا إذا مات في أثناء الحول, فلا تؤخذ من تركته عند الحنابلة, لأنّها لا تجب قبل كمال الحول. وعند الشّافعيّة: لا تسقط, ويؤخذ من تركته قسط ما مضى, لأنّها كالأجرة. هـ - الكفّارات الواجبة وفدية الصّوم والحجّ وجزاء الصّيد: 56 - اختلف الفقهاء في تأثير الموت على الكفّارات الماليّة الواجبة على الإنسان إذا مات قبل أدائها, ككفّارة اليمين وكفّارة القتل الخطأ وكفّارة الظّهار وكفّارة الإفطار في رمضان عمداً, وكذا ما يلزمه من فدية الصّوم والحجّ وجزاء الصّيد إذا مات قبل إخراجها وذلك على ثلاثة أقوال: الأوّل: للشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّ, الكفّارات ونحوها من الواجبات الماليّة كفدية الصّيام والحجّ وجزاء الصّيد لا تسقط بموت من وجبت عليه قبل أدائها وتخرج من رأس ماله, أوصى بها أو لم يوص. وكذلك نصّ الشّافعيّة على أنّ من وجبت عليه فدية الصّوم وهو موسر, فمات قبل أدائها فإنّها تخرج من تركته, وأنّ المتمتّع إذا مات في أثناء الحجّ أو بعد الفراغ منه, وهو واجد للهدي, ولم يكن أخرجه بعد, فيجب إخراجه من تركته على المعتمد في المذهب, كسائر الديون المستقرّة. الثّاني: للحنفيّة, وهو أنّ الكفّارات تسقط بالموت في أحكام الدنيا, إلّا إذا أوصى بها قبل وفاته, فحينئذٍ تخرج من الثلث كسائر الوصايا, وما زاد منها على الثلث يتوقّف على إجازة الورثة, فإن أجازوه نفذ وإن ردوه بطل. وكذا الحكم بالنّسبة لفدية الصّوم والحجّ وجزاء الصّيد. الثّالث: للمالكيّة, وهو أنّ الشّخص إذا أشهد في صحّته على الكفّارات الواجبة عليه أنّها بذمّته, وأنّه لم يفرّط في أدائها, فإنّها بموته تخرج من رأس ماله, سواء أوصى بها أو لم يوص. وأمّا إذا فرَّط في أدائها حتّى مات, ولم يشهد في صحّته أنّها بذمّته, ولكنّه أوصى بها, فإنّها تخرج من ثلث ماله, وكذا الحكم في فدية الحجّ وجزاء الصّيد. أمّا إذا لم يوص بها, ولم يشهد أنّها بذمّته, فلا يجبر الورثة على إخراجها من التّركة أصلاً. وأمّا الهدي الواجب على المتمتّع في الحجّ, فإنّه يخرج من رأس المال إذا مات المتمتّع بعد رمي جمرة العقبة, سواء أوصى بذلك أم لا. وإذا مات قبل رمي جمرة العقبة فلا شيء عليه إلّا إذا قلّد الهدي, فيتعيّن حينئذٍ ذبحه, ولو مات قبل الوقوف بعرفة. و - نفقة الزّوجة: 57 - اتّفق الفقهاء على وجوب نفقة الزّوجة على زوجها متى سلّمت نفسها إليه على الوجه المطلوب شرعاً ولم تكن ناشزاً. ولكنّهم اختلفوا في ثبوتها ديناً في ذمّته إن لم يؤدّها إليها, ووجوبها في تركته إذا مات قبل الأداء, أو سقوطها بالموت قبله, وذلك على ثلاثة أقوال: الأوّل: للشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّ نفقة الزّوجة تكون على زوجها - حتّى لو كان معسراً - إذا لم تمنعه تمتعاً مباحاً, وتجب ديناً في ذمّته لها إذا لم يقم بواجب الإنفاق عليها, وإن لم يصدر بها قضاء قاض, ومن ثمّ فإنّها لا تسقط بموت الزّوج قبل الأداء إليها, بل تؤخذ من تركته كسائر الديون المستقرّة. الثّاني: للحنفيّة, وهو أنّ النّفقة الواجبة على الزّوج لزوجته لا تصير ديناً واجباً في ذمّته إلّا بالتّراضي أو بقضاء القاضي. وعلى ذلك فإن قضى بها القاضي وأمر الزّوجة بالاستدانة على الزّوج, ففعلت, فإنّ دين النّفقة هذا لا يسقط بموت الزّوج قبل أدائه إليها. أمّا إذا قضى بها, ولم يأمرها بالاستدانة, فإنّها تسقط بموته, لأنّها صلة, والصّلات تسقط بالموت قبل التّسليم. الثّالث: للمالكيّة, وهو أنّ النّفقة الواجبة على الزّوج لزوجته لا تلزمه في حال إعساره, وما أنفقته الزّوجة على نفسها في تلك الفترة لا ترجع عليه بشيء منه, وإذا مات الزّوج على هذه الحال, فلا يجب لها في تركته شيء من النّفقة عن تلك المدّة, لأنّها كانت ساقطةً عنه خلالها. أمّا إذا كان موسراً, فإنّ ما تجمّد عليه من نفقة الزّوجة في زمن اليسار, يكون ثابتاً في ذمّته كسائر الديون, ولو لم يفرضه قاض, ولا يسقط بموته قبل أدائه, بل يؤخذ من تركته كسائر ديون العباد, وتحاصص الزّوجة فيه سائر الغرماء. ز - نفقة الأقارب: 58 - اختلف الفقهاء في ثبوت نفقة الأقارب ديناً في ذمّة من وجبت عليه لمن ثبتت له, ووجوبها في تركته إذا مات قبل أدائها لمستحقّها, وذلك على قولين: أحدهما: للحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّ نفقة الأقارب تسقط بموت من وجبت عليه قبل أدائها لمستحقّها, لأنّها صلة, والصّلات تبطل بالموت قبل التّسليم, إلّا إذا فرضها القاضي وأمر باستدانتها عليه, ففعل المستحق, فعندئذٍ تصير ديناً في ذمّة من لزمته, ولا تسقط بموته قبل الأداء, بل تؤخذ من تركته كسائر ديون العباد, حيث إنّها تأكّدت بفرض الحاكم وأمره بالاستدانة. الثّاني: للمالكيّة, وهو أنّ متجمّد نفقة الأقارب يسقط بموت من لزمته قبل أدائها إلّا إذا حكم بها حاكم, أو أنفق شخص على من وجبت له غير قاصد التّبرع عليها بها, وكان من وجبت عليه موسراً, فعندئذٍ تصير ديناً في ذمّته, ولا تسقط بموته قبل الأداء, بل تؤخذ من تركته كسائر الديون الثّابتة للآدميّين. ح - الدّية الواجبة على العاقلة: 59 - اتّفق الفقهاء على أنّ دية القتل الخطأ تجب على العاقلة منجّمةً على ثلاث سنين. ولكنّهم اختلفوا فيما إذا مات أحد ممّن وجبت عليه من العاقلة قبل الأداء, فهل تسقط عنه, أم تكون ديناً في تركته, وذلك على ثلاثة أقوال: الأوّل: للشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّ من مات من العاقلة بعد الحول وكان موسراً, استقرّت الدّية عليه, وأخذت من تركته مقدّمةً على الوصايا والميراث, وأمّا إذا مات في أثناء الحول, أو مات معسراً, فلا يلزمه شيء منها. الثّاني: لأبي حنيفة وهو أنّ من مات من العاقلة قبل الحول أو بعده, فلا يجب في تركته شيء ممّا ضرب عليه من الدّية, وذلك لأنّه إن مات قبل الحول, فلا شيء عليه, إذ هي مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة, فأشبه الزّكاة, وإن مات بعد الحول, فلا يلزمه شيء أيضاً, لأنّه بالموت خرج عن أهليّة الوجوب. الثّالث: للمالكيّة, وهو أنّ ما ضرب على فرد من العاقلة, وكان مستوفياً لشروطه حين لزمه, فإنّه لا يسقط بموته, بل يكون ديناً يقضى من تركته, وحتّى ما كان مؤجّلاً منه, فإنّه يحل بموته. ط - الفعل الضّار: 60 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من ألحق بغيره ضرراً يستوجب ضماناً ماليّاً, فإنّه يكون ديناً في ذمّته, فإذا مات قبل تأديته, فإنّه لا يسقط بوفاته, بل يجب في تركته مقدّماً على الوصايا والمواريث, سواء أوصى به أو لم يوص, كسائر ديون الآدميّين. وللتّفصيل أنظر مصطلح (دين ف / 20).
أ - الحج الواجب: 61 - اختلف الفقهاء فيمن مات بعد ما وجب عليه الحج, ولم يحجّ بعد التّمكن من أدائه, هل يسقط عنه الحج بموته أم لا ؟ وذلك على قولين: أحدهما: للحنفيّة وهو المذهب عند المالكيّة, وهو أنّه يسقط عنه الحج بموته في الأحكام الدنيويّة, ولا يلزم ورثته, ولا يؤخذ من تركته شيء لأجل الحجّ عنه, إلّا إذا أوصى بذلك, فحينئذٍ ينفذ في حدود الثلث كسائر الوصايا, وهو قول الشّعبيّ والنّخعيّ. وحجّتهم على ذلك أنّ العبادات لا ينوب فيها أحد عن أحد, فلا يصلّي شخص عن آخر, وكذلك الحج, وهو مدلول قوله عزّ وجلّ: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}. أمّا من أمر بالحجّ عنه أو أوصى به, فإنّه يكون له فيه سعيٌ. والثّاني: للشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّ الحجّ لا يسقط عنه بالموت, ويجب قضاؤه من جميع تركته, أوصى بذلك أو لم يوص, وعلى ذلك فيلزم وارثه أن يحجّ عنه من تركته, أو يستأجر من يحج عنه إن كان له تركة. أمّا إذا لم يترك شيئاً, فإنّ الحجّ يبقى في ذمّته ولا يلزم وارثه, شيء, وهو قول الحسن وطاووسٍ. واستدلوا على ذلك بما روى بريدة رضي الله عنه «أنّ امرأةً أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ أمّي ماتت ولم تحجّ قط, أفأحج عنها, قال: حجّي عنها»، وما ورد عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما «أنّ رجلاً قال: يا رسول اللّه إنّ أبي مات ولم يحجّ, أفأحج عنه ؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين, أكنت قاضيه ؟ قال: نعم. قال: فدين اللّه أحق», وأيضاً بأنّ الحجّ حقٌّ مستقر عليه, وقد لزمه في حال الحياة, وهو حق تدخله النّيابة, فلم يسقط بالموت كدين الآدميّ. ب - الصّلاة الواجبة: 62 - اتّفق الفقهاء علّ أنّ من مات وعليه صلاة واجبة, سقطت عنه في أحكام الدنيا بموته, لأنّ الصّلاة عبادة بدنيّة محضة, فلا ينوب أحد عن الميّت في أدائها, لأنّ المقصود من العبادات - كما يقول الشّاطبيّ - الخضوع للّه والتّوجه إليه والتّذلل بين يديه والانقياد تحت حكمه وعمارة القلب بذكره, حتّى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضراً مع اللّه ومراقباً له غير غافل عنه, وأن يكون ساعياً في مرضاته وما يقرّب إليه على حسب طاقته, والنّيابة تنافي هذا المقصود وتضاده, لأنّ معنى ذلك أن لا يكون العبد عبداً ولا المطلوب بالخضوع والتّوجه خاضعاً ولا متوجّهاً إذا ناب عنه غيره في ذلك, وإذا قام غيره في ذلك مقامه, فذلك الغير هو الخاضع المتوجّه, والخضوع والتّوجه ونحوهما إنّما هو اتّصاف بصفات العبوديّة, والاتّصاف لا يعدو المتّصف به ولا ينتقل عنه إلى غيره. غير أنّ الحنفيّة قالوا: إذا أوصى من عليه صلوات فائتة بالكفّارة, فيلزم وليّه - وهو من له ولاية التّصرف في ماله بولاية أو وراثة - أن يعطي عنه لكلّ صلاة نصف صاع من بر كالفطرة, وذلك من ثلث ماله كسائر الوصايا, فإن لم يوص بذلك سقطت عنه تلك الصّلوات في حقّ أحكام الدنيا للتّعذر, وقال بعض الشّافعيّة - على خلاف المشهور في المذهب - يطعم الولي عن كلّ صلاة فائتة مداً. ج - الصّوم الواجب: 63 - الصّوم الواجب شرعاً على صنوف, فمنه ما يجب محدّداً بزمان معيّن, كصوم شهر رمضان من كلّ عام, ومنه ما يجب بناءً على اعتباراتٍ أخرى كصوم الكفّارات بأنواعها - ككفّارة اليمين والظّهار - وصوم جزاء الصّيد والحلق والمتعة في الحجّ, ومنه ما يجب على سبيل البدل, كقضاء رمضان, ومنه ما يجب بغير ذلك. وقد ذهب أكثر أهل العلم - كما قال ابن قدامة - إلى أنّ من وجب عليه الصّوم بأحد الأسباب المشار إليها, فلم يتمكّن من أدائه إمّا لضيق الوقت, أو لعذر من مرض أو سفر أو عجز عن الصّوم, ودام عذره إلى أن مات, فلا شيء عليه شرعاً, ولا يجب على ورثته صيام ولا في تركته إطعام, ولا غير ذلك. 64 - أمّا إذا كان متمكّناً من الصّيام, لكنّه لم يؤدّه حتّى مات, فقد اختلف الفقهاء في سقوطه عنه بالموت على قولين. القول الأوّل: للحنفيّة والشّافعيّة في الجديد والمالكيّة والحنابلة, وهو أنّ من مات وعليه صوم رمضان أو كفّارة أو نحوهما من الصّوم الواجب, سقط عنه الصّوم في الأحكام الدنيويّة, فلا يلزم وليّه أن يصوم عنه, لأنّ فرض الصّيام جار مجرى الصّلاة, فلا ينوب أحد عن أحد فيه. وقد اختلف أصحاب هذا الرّأي فيما يجب على الوليّ في هذه الحالة على مذهبين. المذهب الأوّل: للحنفيّة والمالكيّة, وهو أنّه لا يجب على الوليّ أو الورثة أن يطعموا عنه شيئاً إلّا إذا أوصى بذلك, فإن أوصى به, فإنّه يخرج من ثلث التّركة كسائر الوصايا. المذهب الثّاني: للحنابلة والشّافعيّة في المشهور من المذهب, وهو أنّه يجب على الوليّ أن يطعم عنه لكلّ يوم مسكيناً, سواء أوصى بذلك أو لم يوص, وهو مرويّ عن عائشة وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم وبه قال اللّيث والأوزاعي والثّوري وابن عليّة وأبو عبيد وغيرهم. والقول الثّاني: للشّافعيّ في القديم, وهو أنّ من مات وعليه صوم واجب, صام عنه وليه على سبيل الجواز دون اللزوم, مع تخيير الوليّ بين الصّيام عنه وبين الإطعام. واحتجوا على ذلك بما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»، وما روى بريدة رضي الله عنه «أنّ امرأةً أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ أمّي ماتت, وكان عليها صوم شهر, أفأصوم عنها ؟ قال: صومي عنها»، وما روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر, أفأقضيه عنها ؟ فقال: لو كان على أمّك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال: نعم. قال: فدين اللّه أحق أن يقضى».
الالتزام الاختياري للمكلّف هو ما يثبت بإرادته واختياره, وهذا الالتزام قد يكون أثراً لتعاقد وارتباط تمّ بين إرادة شخصين, وقد يكون أثراً لعهد قطعه على نفسه بإرادته المنفردة.
65 - ومنشأ هذه الالتزامات العقد, الّذي هو عبارة عن ارتباط الإيجاب الصّادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجهٍ يثبت أثره في المعقود عليه. والالتزامات النّاشئة عن العقود على ثلاث أقسام, التزامات, ناشئة عن عقود لازمة من الجانبين, والتزامات ناشئة عن عقود جائزة " غير لازمة " من الجانبين, والتزامات ناشئة عن عقود لازمة من جانب واحد, وبيان ذلك فيما يلي:
أ - البيع: 66 - لم يختلف الفقهاء في أنّ البيع متى لزم, فإنّ ما ينشأ عنه من التزام على أحد العاقدين تجاه الآخر لا يسقط ولا يبطل بموته, فإذا مات البائع قام ورثته بإيفاء ما عليه من التزاماتٍ تجاه المشتري, وإذا مات المشتري قام ورثته بتنفيذ ما عليه من واجباتٍ والتزاماتٍ تجاه البائع, وذلك في حدود ما ترك. قال ابن قدامة: وإن مات المتبايعان, فورثتهما بمنزلتهما, لأنّهم يقومون في أخذ مالهما وإرث حقوقهما, فكذلك ما يلزمهما أو يصير لهما. وللتّفصيل (ر: عقد ف /61). 67 - وقد استثنى الفقهاء من ذلك ما إذا مات أحد العاقدين مفلساً, وأوردوا تفصيلاً في أثر ذلك على الالتزامات النّاشئة عن عقد البيع, وإن كان بينهم ثمّة اختلاف في الفروع والجزئيّات, وبيان ذلك فيما يلي: أ - إذا اشترى شخص شيئاً, ثمّ مات مفلساً بعد أداء ثمنه للبائع, فالمبيع ملكه خاصّةً, سواء قبضه من البائع أو لم يقبضه, وهذا باتّفاق الفقهاء. ب - أمّا إذا مات مفلساً قبل تأدية الثّمن, فينظر: فإن لم يكن المشتري قد قبض المبيع, فقال الحنفيّة: للبائع أن يحبسه حتّى يستوفي ثمنه من تركة المشتري أو يبيعه القاضي ويؤدّي للبائع حقّه من ثمنه, فإن زاد الثّمن عن حقّ البائع يدفع الزّائد لباقي الغرماء, وإن نقص عن حقّ البائع أخذ البائع الثّمن الّذي بيع به, ويكون في الباقي أسوة الغرماء. وقال المالكيّة: يكون البائع أحقّ به أي أنّ له فسخ العقد واستيفاء المبيع لنفسه. أمّا إذا كان المشتري قد قبض المبيع, فهل يكون للبائع أن يستردّه فيحبسه إن كان باقياً بعينه, ويكون أحقّ به من غيره من أرباب الحقوق على المشتري كما لو كان باقياً في يده, أم يصير البائع بقبض المشتري له قبل موته مثل باقي الغرماء ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأوّل: للحنفيّة والمالكيّة والحنابلة, وهو أنّه ليس للبائع بعد أن قبض المشتري المبيع استرداده, بل يكون أسوة الغرماء, فيقسمونه, جميعاً, واحتجوا على ذلك بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «أيما رجل باع متاعاً فأفلس الّذي ابتاعه, ولم يقبض الّذي باعه من ثمنه شيئاً, فوجد متاعه بعينه فهو أحق به, وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء». القول الثّاني: للشّافعيّة وهو أنّ البائع بالخيار: إن شاء ترك المبيع وضارب الغرماء بثمنه, وإن شاء استردّه, وكان أحقّ به من سائر الغرماء وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى: أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه». ج - أمّا إذا مات البائع مفلساً بعد قبض الثّمن وقبل تسليم المبيع للمشتري, ففي هذه الحالة نصّ الحنفيّة والمالكيّة على أنّ المشتري يكون أحقّ بالمبيع من سائر الغرماء, لأنّه ليس للبائع حق حبسه في حياته, بل للمشتري جبره على تسليمه إليه ما دامت عينه قائمةً, فيكون له أخذه بعد موت البائع أيضاً, إذ لا حقّ للغرماء, فيه بوجه, لأنّه أمانة عند البائع - وإن كان مضموناً بالثّمن لو هلك عنده - وعلى هذا كان له أخذه إن كانت عينه باقيةً أو استرداد ثمنه إن كان قد هلك عند البائع أو عند ورثته. وانظر مصطلح (إفلاسٌ ف / 37). ب - السَّلَم: 68 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ ربّ السّلم إذا مات بعد تأدية رأس مال السّلم فإنّ المسلم فيه يكون ديناً له في ذمّة المسلم إليه, ويقوم ورثته مقامه في استيفائه منه كسائر ديونه المؤجّلة. ولكن إذا مات المسلم إليه قبل حلول زمن الوفاء, فهل يبطل الأجل بموته, ويحل دين السّلم, أم أنّه يبقى كما هو إلى وقته ؟ اختلف الفقهاء في ذلك قولين: القول الأوّل: لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة, وهو أنّ الأجل يبطل بموت المسلم إليه, ويحل دين السّلم, ويلزم تسليمه من تركته حالاً إلى ربّ السّلم إذا كان موجوداً. أمّا إذا لم يكن متوفّراً في وقت الحلول الطّارئ بموت المسلم إليه فقد اختلفوا: هل يفسخ عقد السّلم لذلك أم لا ؟ وعلى تقدير عدم الفسخ, هل توقف قيمة المسلم فيه من التّركة إلى الوقت الّذي يوجد فيه عادةً أم لا ؟ فقال الحنفيّة: يؤخذ من التّركة حالاً لأنّ من شروط صحّة السّلم وجود المسلم فيه في الأسواق من وقت العقد إلى محلّ الأجل عندهم, وذلك لتدوم القدرة على تسليمه, إذ لو لم يشترط ذلك, ومات المسلم إليه قبل أن يحلّ الأجل, فربّما يتعذّر تسليم المسلم فيه, فيئُول ذلك إلى الغرر. وقال المالكيّة: إنّ المسلم فيه يحل بموت المسلم إليه كما هو الشّأن في حلول سائر الديون المؤجّلة بموت المدين, وفي هذه الحالة فإنّ المسلم فيه يجب تسليمه من التّركة, إلّا أنّه إذا كان موت المسلم إليه قبل محلّ أجله, ولم يكن المسلم فيه موجوداً في الأسواق, فإنّه يوقف تقسيم التّركة إلى الوقت الّذي يغلب وجوده فيه. قال الحطّاب: إذا مات المسلم إليه قبل وقت الإبّان, أي وقت وجود المسلم فيه عادةً, فإنّه يجب وقف قسم التّركة إليه. وقال ابن رشد: إنّما يوقف إن خيف أن يستغرق المسلم فيه كلّ التّركة, فإن كان أقلّ من التّركة وقف قدر ما يرى أن يفي بالمسلم فيه, وقسم ما سواه, وهذا خلافاً لما يراه أشهب, فإنّه يرى أنّ القسم لا يجوز إذا كان على الميّت دين, وإن كان يسيراً. وقال ابن عبد السّلام: إن كان على المسلم إليه ديون أخرى قسمت التّركة عليه, ويضرب للمسلم قيمة المسلم فيه في وقته على ما يعرف في أغلب الأحوال من غلاء ورخصٍ. وقال بعضهم تتميماً لقول ابن عبد السّلام بأنّه يوقف للمسلم ما صار له في المحاصّة حتّى يأتي وقت الإبّان, فيشترى له ما أسلم فيه, فإن نقص عن ذلك أتبع بالقيمة ذمّة الميّت إن طرأ له مال, وإن زاد لم يشتر له إلّا قدر حقّه, وتترك البقيّة إلى من يستحق ذلك من وارث أو مديان. وقال الشّافعيّة في الأصحّ: إذا كان المسلم فيه موجوداً في الأسواق فيجب تحصيله وتسليمه لربّ السّلم وإن غلا وزاد على ثمن مثله, أمّا إذا لم يكن موجوداً فيها, فيثبت للمسلم الخيار بين الفسخ والصّبر حتّى يوجد المسلم فيه دفعاً للضّرر, ولا ينفسخ العقد - كما لو أفلس المشتري بالثّمن - لأنّ المسلم فيه يتعلّق بالذّمّة, وهي باقية, والوفاء في المستقبل ممكن, والقول الآخر عند الشّافعيّة ينفسخ العقد كما لو تلف المبيع قبل القبض. القول الثّاني: للحنابلة في المعتمد, وهو أنّ الأجل لا يحل بموت المدين إذا وثّقه الورثة أو غيرهم برهن أو كفيل مليء على أقلّ الأمرين من قيمة التّركة أو الدّين, ولا يوقف شيء من تركة المسلم إليه لأجل دين السّلم. فإن لم يوثق بذلك حلّ, لأنّ الورثة قد لا يكونون أملياء, ولم يرض بهم الغريم, فيؤدّي ذلك إلى فوات الحقّ. ج - الإجارة: 69 - اختلف الفقهاء في تأثير موت المؤجّر في إجارة الأعيان والأجير في إجارة الأعمال على ما التزم به في عقد الإجارة, وذلك على قولين: القول الأوّل: للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّ ما التزم به المؤجّر لا يبطل بموته, لأنّ الإجارة لا تنفسخ بالموت, بل تبقى على حالها, لأنّها عقد لازم فلا ينفسخ بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه, ولذلك تبقى العين عند المستأجر حتّى يستوفي منها ما تبقّى له من المنفعة, وليس لورثة المؤجّر أن يمنعوه من الانتفاع بها, وهو قول إسحاق والبتّيّ وأبي ثور وابن المنذر. وأمّا ما التزم به الأجير من العمل: فإمّا أن يكون مرتبطاً بعينه وذاته, كما إذا قال له: استأجرتك أو اكتريتك لتعمل كذا أو لكذا أو لعمل كذا, أو يكون مرتبطاً بذمّة الأجير, كما إذا استأجره لأداء عمل معيّن يلزم ذمّته, مثل أن يلزمه بحمل كذا إلى مكان كذا أو خياطة كذا دون أن يشترط عليه مباشرته بنفسه, وذلك ما يسمّى في الاصطلاح الفقهيّ بإجارة الذّمّة. فإن كان الالتزام مرتبطاً بعين الأجير وذاته, فإنّه يسقط وينتهي بموت الأجير لانفساخ عقد الإجارة بموته نظراً لفوات محلّ المنفعة المعقود عليها واستحالة إكمال تنفيذ العقد فيما يتعلّق بالمدّة المتبقّية, أمّا فيما مضى من الزّمن فلا يسقط حق الأجير فيما يقابله من أجر, وذلك لاستقراره بالقبض. وأمّا إذا كان الالتزام موصوفاً في ذمّة الأجير, فإنّه لا يسقط بموته, وينظر: إن كان له تركة أستؤجر منها من يقوم بإكمال وتوفية التزامه, لأنّه دين عليه. وإن لم يكن له تركة, ولم يرغب ورثته في إتمام ذلك العمل الموصوف في ذمّته ليستحقوا الأجر, فإنّه يثبت ما للمستأجر حق الفسخ لموت الملتزم مفلساً. القول الثّاني: للحنفيّة والثّوريّ واللّيث وهو أنّ الإجارة تنفسخ بموت المؤجّر لأعيانه والأجير على عمله, سواء مات قبل تنفيذ العقد أو في أثنائه, لأنّ استيفاء المنفعة على ملك المؤجّر يتعذّر بالموت, فينفسخ العقد ضرورةً, وينتهي التزام كل من المؤجّر والأجير. غير أنّ الحنفيّة استثنوا بعض الحالات الخاصّة, وقالوا إنّ الإجارة فيها لا تنفسخ بموت المؤجّر ضرورةً, وهي: أ - إذا مات المؤجّر قبل انقضاء المدّة, وفي الأرض المستأجرة زرع بقل, أي لم ينضج بعد, فيبقى العقد ولا ينفسخ بموته حتّى يدرك الزّرع, ويكون الواجب عندئذٍ الأجر المسمّى إلى نهاية مدّة العقد, وبعد انقضاء المدّة أجر المثل حتّى يدرك. ب - إذا استأجر دابّةً إلى مكان معيّن, فمات صاحب الدّابّة وسط الطّريق, فإنّ للمستأجر أن يركب الدّابّة إلى المكان المسمّى بالأجر إذا لم يجد دابّةً أخرى يصل بها أو لم يكن هناك ثمّة قاض يرفع الأمر إليه, ولا ينفسخ العقد بموت صاحب الدّابّة. وانظر التّفصيل في (إجارة ف / 59 - 72). د - المساقاة: 70 - اختلف الفقهاء في تأثير الموت على الالتزامات المترتّبة على عقد المساقاة, سواء في ذلك ما التزم به صاحب الشّجر أو النّخل بتمكين العامل من القيام بسقيه وإصلاحه, أو ما التزم به العامل من تعهد الشّجر وعمل سائر ما يحتاج إليه, وذلك على ثلاثة أقوال: القول الأوّل: للمالكيّة والشّافعيّة وبعض الحنابلة, وهو أنّ عقد المساقاة لا ينفسخ بموت أحد طرفيه, سواء كان ذلك قبل بدء العمل أو في أثنائه, لأنّه عقد لازم, فأشبه الإجارة, ويقوم الوارث مقام الميّت منهما. وعلى ذلك. فإن كان الميّت عامل المساقاة, كان لورثته أن يقوموا مقامه في إتمام العمل إذا كانوا عارفين بالعمل أمناء, ويلزم المالك أو ورثته تمكينهم من العمل إن كانوا كذلك. فإن أبى الورثة القيام بذلك العمل لم يجبروا عليه, لأنّ الوارث لا يلزمه من الحقوق الّتي على مورثه إلّا ما أمكن أداؤه من تركته, والعمل هاهنا ليس من هذا القبيل, وفي هذه الحالة يستأجر الحاكم من التّركة من يقوم بالعمل, لأنّه دين على الميّت, فأشبه سائر الديون, فإن لم يكن هناك تركة, ولم يتبرّع الورثة بالوفاء, فلربّ المال الفسخ, لتعذر استيفاء المعقود عليه, كما لو تعذّر ثمن المبيع قبل قبضه. وإن كان الميّت ربّ الشّجر, لم تفسخ المساقاة, ويستمر العامل في عمله, ويجب على ورثة ربّ المال تمكينه من العمل والاستمرار فيه وعدم التّعرض له, وبعد تمام العمل يأخذ حصّته من الثّمر بحسب ما اشترط في العقد. القول الثّاني: للحنفيّة, وهو أنّ المساقاة تبطل بالموت, أي بموت ربّ الشّجر أو العامل, قبل بدء العمل أو في أثنائه, لأنّها في معنى الإجارة, وهذا هو الأصل عندهم. ثمّ فصَّلوا في المسألة فقالوا: إذا قام العامل برعاية وسقاية الشّجر, ولقّحه حتّى صار بسراً أخضر, ثمّ مات صاحب الشّجر, فإنّ المساقاة تنتقض بينهما في القياس, ولكن للعامل - استحساناً - أن يقوم برعاية الشّجر حتّى يدرك الثّمر, وإن كره ذلك ورثة ربّ الشّجر, لأنّ في انفساخ العقد بموت ربّ الشّجر إضرار بالعامل وإبطالاً لما كان مستحقاً له بالعقد, وهو ترك الثّمار على الأشجار إلى وقت الإدراك, وإذا انتقض العقد فإنّه يكلّف الجذاذ قبل الإدراك, وفي ذلك ضرر بالغٌ عليه, ولهذا لا تبطل المساقاة بموت ربّ الشّجر في الاستحسان, فإن أبى العامل أن يستمرّ في عمل الشّجر وأصرّ على قطعه وأخذه بسراً انتقض العقد, لأنّ إبقاء العقد تقديراً إنّما كان لدفع الضّرر عنه, فإذا رضي التزام الضّرر كان له ما اختار, غير أنّه لا يملك إلحاق الضّرر بورثة ربّ الشّجر, فيثبت لهم الخيار على النّحو التّالي: أ - أن يقسموا البسر على الشّرط المنصوص عليه في العقد الّذي كان بين مورّثهم والعامل. ب - أن يعطوا العامل قيمة نصيبه من البسر. ج - أن ينفقوا على البسر حتّى يبلغ, فيرجعوا بذلك في حصّة العامل من الثّمر. وأمّا إذا مات عامل المساقاة في هذه الحالة فإنّ العقد لا يبطل بموته استحساناً ويكون لورثته أن يقوموا مقامه في تعهد الشّجر ورعايته, وإن كره رب الشّجر, لأنّهم قائمون مقامه, إلّا أن يقول الورثة: نحن نأخذه بسراً, وطلبوا نصيب مورّثهم من البسر, ففي هذه الحالة يكون لصاحب الشّجر من الخيار مثل ما قدّمنا, وهو ما يكون لورثته إذا أبى العامل أن يستمرّ في القيام على الشّجر. وأمّا إذا ماتا جميعاً, كان الخيار في القيام عليه لورثة العامل, لأنّهم يقومون مقامه, وقد كان له في حياته هذا الخيار إذا مات صاحب الشّجر, فكذلك يكون لورثته بعد موته, فإن أبوا ذلك كان الخيار لورثة ربّ الشّجر على ما قدّمنا في الوجه الأوّل. القول الثّالث: للحنابلة على المذهب, وهو أنّ المساقاة تنفسخ بموت أحد العاقدين, فإذا مات العامل أو رب الشّجر انفسخت المساقاة, كما لو فسخها أحدهما, بناءً على قولهم إنّ عقد المساقاة من العقود الجائزة من الطّرفين. ومتى انفسخت المساقاة بموت أحدهما بعد ظهور الثّمرة, فهي بينهما على ما شرطاه في العقد, ويلزم العامل أو وارثه إتمام العمل, فإن ظهرت, ثمرة أخرى بعد الفسخ فلا شيء للعامل فيها, وإذا انفسخت المساقاة بموت أحدهما بعد شروع العامل في العمل وقبل ظهور الثّمرة, فله أجرة مثل عمله, ويقوم وارث العامل بعد موته مقامه في الملك والعمل, فإن أبى الوارث أن يأخذ ويعمل, لم يجبر, ويستأجر الحاكم من التّركة من يعمل, فإن لم تكن تركة, أو تعذّر الاستئجار منها بيع من نصيبه من الثّمر الظّاهر ما يحتاج إليه لتكميل العمل, واستؤجر من يعمله. هـ - المزارعة: 71 - يرى الحنفيّة والحنابلة أنّ المزارعة تنفسخ بموت أحد العاقدين, سواء أكان العامل أم ربّ الأرض, بناءً على أنّ المزارعة من العقود الجائزة من الطّرفين عندهم. وللحنفيّة تفصيل في المسألة حيث قالوا: إذا مات أحدهما قبل الزّراعة, فإنّ المزارعة تنفسخ, إذ ليس في ذلك إبطال مال على المزارع, ولا شيء له بمقابلة ما عمل. أمّا إذا مات أحدهما بعد الزّراعة فإنّ المزارعة تبقى استحساناً, وذلك لدفع ما يصيب أحدهما من ضرر, والقياس أنّها تبطل, ولكن تبقى حكماً إلى حصد الزّرع. وقد ذكر الكاساني: أنّ صاحب الأرض إذا مات والزّرع بقل, فإنّ العمل يكون على المزارع خاصّةً, لأنّ العقد وإن كان قد انفسخ حقيقةً لوجود سببه وهو الموت, إلّا أنّنا أبقيناه تقديراً دفعاً للضّرر عن المزارع, لأنّه لو انفسخ لثبت لصاحب الأرض حق القلع, وفيه ضرر بالمزارع, فجعل ذلك عذراً في بقاء العقد تقديراً, فإذا بقي العقد كان العمل على المزارع خاصّةً كما كان قبل الموت. وأمّا إذا مات المزارع والزّرع بقل, فلورثته أن يعملوا على شرط المزارعة, وإن أبى ذلك صاحب الأرض, لأنّ في القطع ضرراً بهم ولا ضرر بصاحب الأرض في التّرك إلى وقت الإدراك, وإن أراد الورثة قلع الزّرع وترك العمل, لم يجبروا عليه, لأنّ العقد قد انفسخ حقيقةً, إلّا أنّا أبقيناه باختيارهم نظراً لهم, فإن امتنعوا عن العمل بقي الزّرع مشتركاً, ويخيّر صاحب الأرض: إمّا أن يقسمه بالحصص, أو يعطيهم قيمة حصصهم من الزّرع البقل, أو أن ينفق على الزّرع من مال نفسه إلى وقت الحصاد ثمّ يرجع عليهم بحصصهم, لأنّ في ذلك رعايةً للجانبين. و - الحوالة: 72 - اختلف الفقهاء في تأثير موت المحال عليه أو المحيل في عقد الحوالة على الالتزامات النّاشئة عن تلك المعاقدة إذا مات أحدهما قبل استيفاء دين الحوالة, وذلك على النّحو التّالي: أوّلاً: ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المحال عليه يلزم بالدّين المحال به, ولا يطالب به المحيل أبداً, لأنّ ذمّته قد برئت بمقتضى الحوالة, فلا يكون للمحال الحق في الرجوع على المحيل بحال, وعلى ذلك فإذا مات المحال عليه, فإنّ ما التزم به لا يبطل بموته, بل يؤخذ من تركته, فإذا مات مفلساً لا تركة له فإنّ التزامه لا يبطل, ولا يكون للمحال حق في الرجوع على المحيل, لأنّ الحوالة عقد لازم لا ينفسخ بالموت فامتنع الرجوع على المحيل لبقاء الدّين المحال به في ذمّة المحال عليه. أمّا موت المحيل فلا تأثير له على الحوالة عند الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة, لأنّ ذمّته قد برئت وانتقل الدّين إلى ذمّة المحال عليه, فأصبح هو المطالب به وحده, إذ الحوالة بمنزلة الإيفاء. ثانياً: ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا تأثير لموت المحال عليه على ما التزم به من مال, فيؤخذ من تركته ويعطى للمحال. وإذا كان المحال عليه مديناً قسم ماله بين الغرماء وبين المحال بالحصص, فإن بقي للمحال شيء من الدّين رجع به على المحيل. وإذا كان دين الحوالة مؤجّلاً فإنّه يحل بوفاة المحال عليه لاستغنائه عن الأجل بموته. ويستثنى من ذلك ما إذا مات المحال عليه مفلساً, فإنّ الحوالة حينئذٍ تنتهي في الدّين كلّه - إن لم يترك وفاءً بشيء منه - أو تنتهي في باقيه إن ترك وفاءً ببعضه. أمّا إذا مات المحيل فإنّ لوفاته تأثيراً على الحوالة المقيَّدة, وإن كان الأصل عندهم أنّ ذمّة المحيل قد برئت لانتقال الدّين إلى ذمّة المحال عليه, ولكنّ ذلك مقيّد بسلامة حقِّ المحال, فخوفاً أن يضيع حقه ويتوى, كان له الرجوع على المحيل رغم براءة ذمّته منه, إذ البراءة ههنا مؤقّتة ومرهونة بسلامة حقّ المحال, ولهذا فإن مات المحيل بعد الحوالة وقبل استيفاء المحال المال من المحال عليه بطلت الحوالة, وإذا كان على المحيل ديون أخرى, فالمحال أسوة الغرماء. أمّا إذا كانت الحوالة مطلقةً, فإنّه لا تبطل بموت المحيل, ولا تأثير لموته على الحوالة, وأساس ذلك كما جاء في العقود الدرّيّة: أنّ الحوالة المطلقة تبرع, وإذا كان المحال عليه مديناً للمحيل لا تتقيّد بدينه, ولذا كان للمحيل مطالبته به قبل الأداء, فلا تبطل بقسمة دين المحيل بين غرمائه, لأنّ المحال لم يبق من غرمائه, بل صار من غرماء المحال عليه, فهذا كله دليل على أنّ الحوالة المطلقة لا تبطل بموت المحيل, بل تبقى مطالبة المحال على المحتال عليه, وإن أخذ منه دين المحيل وقسم بين غرمائه, وهذا جار على القواعد الفقهيّة. ثالثاً: ذهب المالكيّة إلى أنّ الحوالة متى تمّت, فإنّ الدّين ينتقل من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه, ويصبح المحال عليه ملتزماً بأدائه للمحال, فإذا مات قبل الأداء, فإنّه يؤخذ الدّين المحال به من تركته, ولا رجوع للمحال على المحيل بحال, حتّى وإن مات المحال عليه مفلساً, إلّا أن يشترط المحال على المحيل أنّه إذا مات المحال عليه أو أفلس, فإنّه يرجع عليه, فله عند ذلك شرطه إذا مات المحال أو فلّس.
وتشمل هذه العقود الرّهن والكفالة, إذ الرّهن لازم من جهة الرّاهن دون المرتهن, والكفالة لازمة من جهة الكفيل دون المكفول له, وبيان ذلك فيما يلي: أ - الرّهن: فرّق الفقهاء في تأثير الموت على التزام الرّاهن بين حالتين: 73 - الحالة الأولى: موت الرّاهن بعد قبض المرتهن للعين المرهونة وبيان ذلك أنّ الرّهن بعد القبض يكون لازماً في حقّ الرّاهن باتّفاق الفقهاء, ويترتّب على هذا اللزوم أنّه لا يجوز للرّاهن فسخه بإرادته المنفردة, فإذا مات الرّاهن بعد القبض, فإنّ التزامه النّاشئ عن عقد الرّهن لا يسقط بموته, لأنّ الرّهن قد لزم من جهته, ولا حقَّ للورثة في إبطال حقِّ المرتهن المتعلّق بالعين المرهونة, وإن كان ميراثاً لهم, وعلى ذلك فإنّ العين تبقى تحت يد المرتهن إلى أن يستوفي دينه, وإلّا بيعت العين لوفاء حقّه إذا تعذّر الاستيفاء من غيرها, وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة. 74 - الحالة الثّانية: موت الرّاهن قبل القبض: اختلف الفقهاء في تأثير الموت على التزام الرّاهن بعد الرّهن إذا مات قبل تسليم العين المرهونة للمرتهن, وذلك على قولين: أحدهما: للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في مقابل الأصحّ, وهو أنّ الرّهن يبطل بموت الرّاهن قبل القبض, وينتهي التزامه بموته, ولا يلزم ورثته تسليم العين للمرتهن, وبذلك لا يختص المرتهن بالعين المرهونة, بل يكون في دينه أسوة الغرماء. والثّاني: للشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة, وهو أنّ الرّهن لا يبطل بموت الرّاهن قبل القبض, لأنّ مصير الرّهن إلى اللزوم, فلم ينفسخ بالموت كالبيع بشرط الخيار, ويقوم ورثته مقامه في الإقباض إن شاءوا ولا يجبرون عليه, لأنّ عقد الرّهن لم يكن لازماً في حقّ مورّثهم قبل القبض, فلم يلزم بموته, ويرث ورثته خياره في التّسليم للمرتهن أو عدمه. غير أنّ الحنابلة وبعض الشّافعيّة نصوا في هذه الحالة على أنّه لا يصح لورثة الرّاهن أن يخصوا المرتهن بالعين المرهونة, إذا كان على مورّثهم دين آخر سوى دينه, بل يجب أن يكون أسوة الغرماء. ب - الكفالة: 75 - الكفالة عند الفقهاء نوعان: كفالة بالمال, وكفالة بالنّفس, ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ المكفول له " ربّ الحقّ " إذا مات, فإنّ الكفالة لا تسقط, سواء أكانت كفالةً بالمال أو بالنّفس, وينتقل الحق إلى ورثته كسائر الحقوق الموروثة, فيقومون مقامه في المطالبة بالدّين أو بتسليم المكفول به. أمّا عن أثر موت الكفيل في بطلان عقد الكفالة فيفرّق فيه بين الكفالة بالمال والكفالة بالنّفس, وبيان ذلك فيما يلي: أ - الكفالة بالمال: 76 - ذهب الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ التزام الكفيل بأداء المال فيها لا يسقط بموته, بل يؤخذ من تركته, لأنّ ماله يصلح للوفاء بذلك, فيطالب به وصيه أو وارثه لقيامه مقام الميّت. وإذا كان الدّين المكفول به مؤجّلاً, فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وأحمد في رواية عنه إلى أنّه يحل بموت الكفيل, ويؤخذ من تركته حالاً. ولكنّ ورثته لا ترجع على المكفول عنه إلّا بعد حلول الأجل, لأنّ الأجل باق في حقّ المكفول لبقاء حاجته إليه. وخالفهم في ذلك الحنابلة على المعتمد في المذهب فقالوا: لا يحل الدّين المكفول به المؤجّل بموت الكفيل إذا وثّقه الورثة برهن أو كفيل مليء لأنّ التّأجيل حق من حقوق الميّت, فلم يبطل بموته كسائر حقوقه. ب - الكفالة بالنّفس: 77 - اختلف الفقهاء في تأثير موت الكفيل على التزامه بإحضار المكفول به على قولين: القول الأوّل: للمالكيّة والحنابلة والكرخيّ من الحنفيّة, وهو أنّ التزام الكفيل بإحضار المكفول به لا يسقط بموته, ولا تبرأ ذمّته بذلك, فيطالب ورثته بإحضاره, فإن لم يقدروا أو تعذّر ذلك أخذ من التّركة قدر الدّين الّذي على المكفول به. القول الثّاني: للحنفيّة والشّافعيّة, وهو أنّ الكفالة تبطل بموت الكفيل, لأنّ تسليم الكفيل المطلوب بعد موت الكفيل لا يتحقّق منه, ولا تتوجّه المطالبة بالتّسليم على ورثته, لأنّهم لم يكفلوا له بشيء, وإنّما يخلفونه فيما له لا فيما عليه. ثمّ إنّه لا شيء للمكفول له في تركته, لأنّ ماله لا يصلح لإيفاء ذلك الواجب. 78 - أمّا إذا مات المكفول به - في الكفالة بالنّفس - فإنّ الكفالة تسقط عن الكفيل, ولا يلزم بشيء, لأنّ النّفس المكفولة قد ذهبت, فعجز الكفيل عن إحضارها, ولأنّ الحضور قد سقط عن المكفول, فبرئ الكفيل تبعاً لذلك, لأنّ ما التزمه من أجله سقط عن الأصل فبرئ الفرع, كالضّامن إذا قضى المضمون عنه الدّين أو أبرئ منه, وبذلك قال جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وشريح والشّعبيّ وحمّاد بن أبي سليمان. وخالفهم في ذلك اللّيث والحكم فقالوا: يجب على الكفيل غرم ما عليه, لأنّ الكفيل وثيقة بحقّ, فإذا تعذّرت من جهة من عليه الدّين, أستوفي من الوثيقة كالرّهن, ولأنّه تعذّر إحضاره, فلزم كفيله ما عليه, كما لو غاب.
وتشمل هذه العقود الهبة قبل القبض, والإعارة, والقرض, والوكالة, والشّركة, والمضاربة, وبيان ذلك فيما يلي: أ - الهبة قبل القبض: 79 - اختلف الفقهاء في بطلان الهبة بموت الواهب قبل لزوم العقد بالقبض على قولين: أحدهما: للحنفيّة والمالكيّة وبعض الشّافعيّة وبعض الحنابلة, وهو أنّ الهبة تبطل بموت الواهب قبل القبض. وعلّل ذلك الحنفيّة بانتقال الملك لوارث الواهب قبل تمامها. وعلّله المالكيّة بأنّ الهبة نوع من التزام المعروف غير المعلّق على شيء, ولا يقضى بشيء من ذلك على الملتزم إذا أفلس أو مات قبل الحيازة. وعلّله موافقوهم من الشّافعيّة والحنابلة في غير المعتمد بأنّه عقد جائزٌ, فبطل بموت أحد العاقدين, كالوكالة والشّركة. والثّاني: للشّافعيّة والحنابلة في المذهب وهو أنّ الواهب إذا مات قبل قبض هبته لم ينفسخ عقد الهبة, لأنّه يئُول إلى اللزوم, فلم يبطل بالموت, كالبيع بشرط الخيار, ويقوم وارث الواهب مقام مورّثه في الإقباض والإذن فيه, وله الخيار في ذلك, فإن شاء أقبض, وأن شاء لم يقبض. ب - الإعارة: 80 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى انفساخ عقد العارية بموت المعير, وانتهاء تبرعه بمنافعها للمستعير, ووجوب مبادرة المستعير إلى ردّ العارية لورثته. وعلّل الشّافعيّة والحنابلة ذلك بأنّها عقد جائزٌ من الطّرفين, فتبطل بموت أي منهما, كالوكالة والشّركة. ووجه البطلان عند الحنفيّة أنّ العين انتقلت إلى وارث المعير بموته, والمنفعة بعد هذا تحدث على ملكه, وإنّما جعل المعير للمستعير ملك نفسه لا ملك غيره. وفصَّل المالكيّة في المسألة فقالوا: إنّ الإعارة معروف, والوفاء بها لازم, لأنّ من ألزم نفسه معروفاً لزمه, ويقضى عليه به ما لم يمت أو يفلس قبل الحيازة. وعلى ذلك: فإذا كانت العارية مقيّدةً بعمل, كطحن إردب من القمح أو حمله على الدّابّة المستعارة إلى جهة ما كان حكمها اللزوم في حقّ المعير حتّى ينتهي العمل الّذي أستعيرت لأجله, وكذا إذا كانت مقيّدةً بزمن, كيوم أو شهر مثلاً, فإنّها تلزم في حقّه حتّى ينقضي الأجل المضروب للانتفاع بها. أمّا إذا كانت مطلقةً - غير مقيّدة بعمل أو زمن - فإنّ العقد لا يكون لازماً في حقّ المعير, وله أن يرجع فيها متى شاء. وحيث كان الحكم كذلك, فإذا مات المعير بعد قبض المستعير للعارية, وبقي في مدّتها, أو من الغرض المستعارة لأجله شيء, فلا تبطل الإعارة بموته, ولا ينتهي التزامه, وتبقى العين المعارة بيد المستعير حتّى ينتفع بها إلى نهاية العمل أو المدّة, أمّا إذا مات المعير قبل أن يقبض المستعير العارية فإنّ الإعارة تبطل بموته لعدم تمامها بالحيازة قبله. ج - الوكالة: 81 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الوكالة تنفسخ بموت الموكّل أو الوكيل, وتبطل سائر الالتزامات المترتّبة عليها من الجانبين. أمّا الموكّل: فلأنّ التّوكيل إنّما قام بإذنه, وهو أهل لذلك, فلمّا بطلت أهليّته بالموت بطل إذنه, وانتقل الحق لغيره من الورثة. وأمّا الوكيل: فلأنّ أهليّته للتّصرف قد زالت بموته, وليس الوكالة حقاً له فتورث عنه. وقال البهوتيّ: لأنّ الوكالة تعتمد الحياة والعقل, فإذا انتفى ذلك انتفت صحّتها, لانتفاء ما تعتمد عليه, وهو أهليّة التّصرف. واستثنى الحنفيّة من ذلك موت الموكّل في حالة الوكالة ببيع الرّهن إذا وكّل الرّاهن العدل أو المرتهن ببيع الرّهن عند حلول الأجل, فحينئذٍ لا تبطل الوكالة ولا ينعزل الوكيل بموت الموكّل. واستثنى الحنابلة موت الموكّل إذا وكّل من يتصرّف لغيره, كوصيّ اليتيم وناظر الوقف, ففي هذه الحالة لا تبطل الوكالة بموته. د - الشّركة: 82 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى انفساخ شركة العقد " بأنواعها " وبطلان الالتزامات النّاشئة عنها بموت أحد الشّريكين قال ابن قدامة: لأنّها عقد جائزٌ, فبطلت بذلك كالوكالة. وقال الحنفيّة: وإنّما بطلت الشّركة بالموت لأنّها تتضمّن الوكالة, أي مشروطٌ ابتداؤها بها ضرورةً, فإنّه لا يتحقّق ابتداؤها إلّا بولاية التّصرف لكلّ منهما في مال الآخر, ولا تبقى الولاية إلّا ببقاء الوكالة. هـ - المضاربة: 83 - لا خلاف بين الفقهاء في انفساخ عقد المضاربة وبطلان الالتزامات المترتّبة عليه بموت المضارب أو ربّ المال إذا كان مال المضاربة ناضاً " أي من جنس رأس مالها ", وذلك لأنّ المضاربة تتضمّن الوكالة, والوكالة تنفسخ بموت أحد عاقديها ولا تورّث, فتتبعها المضاربة. أمّا إذا كان المال عروضاً تجاريّةً, فقد اختلف الفقهاء في بطلان عقد المضاربة بموت أحدهما, وذلك على قولين:
أحدهما: لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة, وهو بطلان المضاربة بموت أحد العاقدين, فتباع السّلع والعروض حتّى ينضّ رأس المال جميعه, ويوزّع بين ورثة المتوفّى والطّرف الباقي. والثّاني: للمالكيّة, وهو أنّ المضاربة لا تبطل بوفاة ربّ المال أو المضارب. أمّا رب المال إذا مات فيخلفه ورثته في المال, ويبقى العامل على قراضه إذا أراد الورثة بقاءه, وإن أرادوا فسخ العقد وأخذ مالهم كان لهم ذلك بعد نضوضه. وأمّا المضارب إذا مات فيخلفه ورثته في حقّ عمله في المضاربة, وليس لربّ المال أن ينتزعه منهم إذا أرادوا العمل فيه إلّا بعد أن يعملوا فيه بمقدار ما كان لمورّثهم. و - الجعالة: 84 - فرّق الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة في تأثير الموت على الالتزام على الجعالة بين موت الجاعل وموت المجعول له, وذلك على النّحو التّالي: موت الجاعل: 85 - ذهب الشّافعيّة والمالكيّة في المشهور إلى انفساخ الجعالة بموت الجاعل وبطلان التزامه فيها قبل شروع العامل " المجعول له في العمل ". وقال ابن حبيب وابن القاسم في ظاهر رواية عيسى عنه: لا يبطل الجعل بموت الجاعل, ويلزم ذلك ورثته, ولا يكون لهم أن يمنعوا المجعول له من العمل. أمّا إذا مات الجاعل بعد أن فرغ من العمل فلا أثر لوفاته على التزامه, لأنّه قد تمَّ واستقرّ, ووجب للعامل الجعل في تركته. ولو مات الجاعل بعد أن شرع العامل في العمل, ولكن قبل إتمامه, فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: أحدهما: للشّافعيّة, وهو بطلان الجعالة بموته, لأنّها من العقود الجائزة من الطّرفين إلّا أنّ العامل إذا أتمّ العمل بعد وفاته, فإنّه يستحق قسط ما عمله في حياته من المسمّى, ولا يستحق شيئاً في مقابلة ما عمله بعد موت الجاعل, لعدم التزام الورثة له به. والثّاني: للإمام مالك - في رواية عليّ بن زياد وأشهب عنه - وهو أنّ الجعالة لا تبطل بموت الجاعل بعد أن شرع العامل في العمل, وتلزم ورثته, ولا يكون لهم أن يمنعوا المجعول له من العمل. موت المجعول له: 86 - إذا مات العامل " المجعول له " قبل أن يشرع في العمل فلا خلاف بين الفقهاء في أنّ الجعالة تبطل بموته, إلّا في قول عند المالكيّة بلزوم الجعالة بالقول بالنّسبة للجاعل, وعليه فإذا مات المجعول له قبل الشّروع فيه لم يبطل العقد, وينزل ورثته منزلته, وليس للجاعل أن يمنعهم من العمل. أمّا إذا مات العامل بعد أن شرع في العمل, وقبل إتمامه, فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: أحدهما: للمالكيّة, وهو أنّ الجعالة لا تبطل بموت العامل بعد الشّروع في العمل, ويقوم ورثته مقامه في إكماله إن كانوا أمناء, وليس للجاعل أن يمنعهم من العمل, وفي هذه الحالة إذا أتمّ الورثة العمل استحقوا الجعل كاملاً, بعضه بالإرث من عمل مورّثهم, وبعضه الآخر نتيجة عملهم. الثّاني: للشّافعيّة وهو أنّ الجعالة تبطل بموته, لأنّها من العقود الجائزة من الطّرفين, فإن أتمّ ورثته العمل من بعده, استحقوا قسط ما عمل مورّثهم من الجعل المسمّى فقط, ولا شيء لهم في العمل الّذي أتموه بعد وفاة مورّثهم. وللتّفصيل أنظر مصطلح (جعالة ف / 67). ز - الوصيّة: 87 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الوصيّة لا تلزم في حقّ الموصي ما دام حيّاً فله أن يرجع عنها في حياته متى شاء لأنّها عقد تبرع لم يتمّ, إذ تمامها بموت الموصي, فجاز رجوعه عنها قبل تمامها, ولأنّ القبول في الوصيّة إنّما يعتبر بعد موت الموصي وكل عقد لم يقترن بإيجابه القبول, فللموجب أن يرجع فيه. وعلى ذلك, فإنّ الوصيّة لا تبطل بموت الموصي إذا مات مصراً عليها, ولا يسقط التزامه بوفاته, بل يعتبر موته موجباً للزومها, من جهته, وقاطعاً لحقّه في الرجوع عنها, ومثبتاً لالتزامه النّاشئ عنها والمترتّب عليها. ح - النّذر: 88 - إذا مات من وجب عليه النّذر دون أن يفي به, فهل يبطل التزامه بالموت أم لا ؟ فرَّق الفقهاء في ذلك بين النّذر الماليّ كالصّدقة والعتق ونحوهما, وبين غير الماليّ كالصّلاة والصّوم والحجّ والاعتكاف ونحوها, وبيان ذلك فيما يلي: أ - النّذر المالي: 89 - اختلف الفقهاء في حكم من نذر في صحّته ونحوها, ثمّ مات قبل الوفاء بنذره وذلك على قولين: القول الأوّل: للحنفيّة والمالكيّة, وهو عدم سقوط النّذر بموته إذا أوصى بأن يوفى من ماله, ويخرج من ثلثه كسائر الوصايا, فإن لم يوص به سقط في أحكام الدنيا, ولا يجب على الورثة إخراجه من مالهم إلّا أن يتطوّعوا به. القول الثّاني: للشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّ النّذر لا يسقط بموته, بل يؤخذ من رأس مال تركته كسائر ديون اللّه تعالى أوصى بذلك أو لم يوص به. ب - النّذر غير الماليّ: 90 - فرّق الفقهاء في ذلك بين ما إذا كان المنذور به حجاً أو صوماً أو صلاةً أو اعتكافاً على النّحو التّالي: أ - فإن كان النّذر صلاةً, فمات النّاذر قبل فعلها فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى سقوطها بموته, فلا يصلّي أحد عن الميّت, لأنّ الصّلاة لا بدل لها, وهي عبادة بدنيّة لا ينوب أحد عن الميّت في أدائها. ب - وإن كان النّذر حجاً, ومات النّاذر قبل التّمكن من أدائه لأيّ عذر من الأعذار الشّرعيّة فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: أحدهما: للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة, وهو أنّه يسقط عنه ولا شيء عليه. والثّاني: للحنابلة في المذهب, وهو أنّه يجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه, ولو لم يوص بذلك. وإذا مات بعد أن تمكّن من أدائه ولم يحجّ, فقد اختلف الفقهاء في سقوطه على قولين: القول الأوّل: للحنفيّة والمالكيّة, وهو أنّه يسقط بوفاة النّاذر, ولا يلزم ورثته الحج عنه, فلا يؤخذ من تركته شيء لأجل قضاء ما وجب عليه من حج إلّا إذا أوصى بذلك, فإنّه ينفذ في حدود ثلث تركته. القول الثّاني: للشّافعيّة والحنابلة, وهو أنّه صار بالتّمكن ديناً في ذمّته, ويجب قضاؤه من جميع تركته إن ترك مالاً, بأن يحجّ وارثه عنه أو يستأجر من يحج عنه, سواء أوصى بذلك أو لم يوص, فإن لم يترك مالاً, بقي النّذر في ذمّته, ولا يلزم الورثة بقضائه عنه. ج - وإن كان النّذر صوماً, فمات النّاذر قبل فعله فقد اختلف الفقهاء في سقوطه على قولين: أحدهما: للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في المذهب, وهو أنّ الصّوم يسقط بموته, فلا يصوم عنه أحد, لأنّ الصّوم الواجب جار مجرى الصّلاة, فكما أنّه لا يصلّي أحد عن أحد, فلا يصوم أحد عن أحد. والثّاني: للحنابلة والشّافعيّ في القديم, وهو أنّه لا يسقط بموته, ويصوم عنه وليه, وذلك لأنّ النّذر التزام في الذّمّة بمنزلة الدّين, فيقبل قضاء الوليّ له كما يقضي دينه. غير أنّ الصّوم ليس بواجب على الوليّ في قول الحنابلة والشّافعيّ في القديم, بل هو مستحب له على سبيل الصّلة له والمعروف. د - وإن كان النّذر اعتكافاً, فمات النّاذر قبل أدائه فقد اختلف الفقهاء في سقوطه على قولين: أحدهما: لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة على المشهور في المذهب, وهو أنّ الاعتكاف يسقط بموته, ولا يفعله عنه وليه. والثّاني: للحنابلة وبعض الشّافعيّة, وهو أنّه لا يسقط, ويعتكف عنه وليه استحباباً على سبيل الصّلة والمعروف, لا على سبيل الوجوب. ط - العدّة: 91 - العدّة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل, وقد اختلف الفقهاء في وجوب الوفاء بالعدّة فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة إلى أنّ الوفاء بها مستحب لا واجب. وذهب المالكيّة في المشهور إلى أنّ العدّة إذا كانت مرتبطةً بسبب, ودخل الموعود في السّبب, فإنّه يجب الوفاء بها, ويلزم به الواعد قضاءً, رفعاً للضّرر عن الموعود المغرّر به, وتقريراً لمبدأ تحميل التّبعيّة لمن ورّطه في ذلك, إذ لا ضرر ولا ضرار, وذلك كما إذا وعده بأن يسلفه ثمن دار يريد شراءها, فاشتراها الموعود تعويلاً على وعده, أو أن يقرضه مبلغ المهر في الزّواج, فتزوّج اعتماداً على عدته. ولكنّ الّذي لا خلاف فيه بين الفقهاء هو أنّ الواعد إذا مات قبل إنجاز وعده فإنّ الوعد يسقط, سواء أكان مطلقاً, أم معلّقاً على سبب ودخل الموعود في السّبب, أمّا عند جمهور الفقهاء, فلأنّ الوعد لا يلزم الواعد أصلاً, وأمّا عند المالكيّة القائلين بوجوبه في الحالة المشار إليها, فلأنّ المقرّر عندهم أنّ المعروف لازم لمن أوجبه على نفسه ما لم يمت أو يفلس, وبالموت سقط التزامه وتلاشى فلا يؤخذ من تركته شيء لأجله.
انظر: مقادير.
انظر: معازف.
1 - الموضحة في اللغة: من الوضوح يقال: وضح الشّيء وضوحاً انكشف وانجلى, واتّضح كذلك. والموضحة من الشّجاج: الّتي بلغت العظم فأوضحت عنه, وقيل: هي الّتي تقشر الجلدة الّتي بين اللّحم والعظم أو تشقها حتّى يبدو. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ. أ - الشّجاج: 2 - الشّجاج في اللغة جمع شجّة, والشّجّة: الجراح في الوجه والرّأس. ولا يخرج استعمال الفقهاء للفظ الشّجاج عن المعنى اللغويّ. والعلاقة بين الموضحة والشّجاج: أنّ الموضحة نوع من الشّجاج. ب - الباضعة: 3 - الباضعة في اللغة: الشّجّة الّتي تشق اللّحم وتقطع الجلد ولا تبلغ العظم ولا يسيل منها الدّم. والباضعة اصطلاحاً: هي الّتي تشق اللّحم بعد الجلد شقاً خفيفاً. والفرق بين الموضحة والباضعة: أنّ الموضحة من الشّجاج الّتي تبلغ العظم ويظهره, وأمّا الباضعة فهي الشّجّة الّتي تقطع الجلد ولا تبلغ العظم ولا تظهره.
تتعلّق بالموضحة أحكام منها: أ - القصاص في الموضحة: 4 - اتّفق الفقهاء على أنّ الموضحة فيها القصاص إذا كان عمداً, لقول اللّه عزّ وجلّ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}, ولأنّه يمكن استيفاؤه من غير حيف ولا زيادة لانتهائه إلى عظم, أشبه قطع الكفّ من الكوع, ولأنّ اللّه تعالى نصّ على القصاص في الجروح, فلو لم يجب في كلّ جرح ينتهي إلى عظم لسقط حكم الآية. غير أنّ أبا حنيفة يرى أنّه إذا اختلّ بالموضحة عضو آخر كالبصر فلا قصاص فيه عنده وتجب الدّية فيهما. ب - كيفيّة استيفاء القصاص في الموضحة: 5 - لا يستوفى القصاص في الموضحة بالآلة الّتي يخشى منها الزّيادة لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء», بل يستوفى بالموسى أو حديدة ماضية معدّة لذلك لا يخشى منها الزّيادة. ولا يستوفي ذلك إلّا من له علم بذلك كالجرائحيّ ومن أشبهه, فإن لم يكن للوليّ علم بذلك أمر بالاستنابة. ولو زاد المقتص في الموضحة على قدر حقّه ينظر, إن زاد باضطراب الجاني فلا غرم, وإن زاد عمداً أقتصّ منه في الزّيادة ولكن بعد اندمال الموضحة الّتي في رأسه, وإن آل الأمر إلى المال أو أخطأ باضطراب يده وجب الضّمان, وفي قدره وجهان عند الشّافعيّة, أحدهما: يوزّع الأرش عليهما فيجب قسط الزّيادة, وأصحهما وهو مذهب الحنابلة: يجب أرشٌ كامل. ولو قال المقتص: أخطأت بالزّيادة, فقال المقتص منه: بل تعمّدتها صدّق المقتص بيمينه. 6 - وإذا أراد الاستيفاء من موضحة وشبهها فإن كان على موضعها شعر حلقه. ويعمد إلى موضع الشّجّة من رأس المشجوج فيعلم منه طولها بخشبة أو خيط, ويضعها على رأس الشّاجّ, ويعلّم طرفيه بخطّ بسواد أو غيره, ويأخذ حديدةً عرضها كعرض الشّجّة, فيضعها في أوّل الشّجّة ويجرها إلى آخرها مثل الشّجّة طولاً وعرضاً, ولا يراعي العمق لأنّ حدّه العظم. ولا يوضح بالسّيف لأنّه لا تؤمن الزّيادة. وكذا لو أوضح بحجر أو خشب يقتص منه بالحديدة. وإن أوضح جميع رأسه ورأساهما متساويان في المساحة, أوضح جميع رأسه. وإن كان رأس الشّاجّ أصغر استوعبناه إيضاحاً, ولا يكتفى به, ولا نتممه من الوجه والقفا لأنّهما غير محلّ الجناية, بل يؤخذ قسط ما بقي من أرش الموضحة لو وزّع على جميع الموضحة لتعينه طريقاً. وإن كان رأس الشّاجّ أكبر لم يوضح جميعه, بل يقدّره بالمساحة, والاختيار في موضعه إلى الجاني. ولو أراد أنّ يستوفي بعض حقّه من مقدّم الرّأس وبعضه من مؤخّره لم يكن له ذلك, لأنّه يأخذ موضحتين بدل موضحة, ولو أراد أن يستوفي البعض ويأخذ الباقي قسّطه من الأرش مع تمكنه من استيفاء الباقي لم يكن له ذلك على الأصحّ عند الشّافعيّة. ج - أرش الموضحة: 7 - في الموضحة خمسٌ من الإبل إن كانت خطأً. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنّ أرشها مقدّر, فقد ورد في كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه: «في الموضحة خمسٌ من الإبل». وتفصيل ذلك في (ديات ف / 65). د - شمول الموضحة للرّأس والوجه: 8 - اختلف الفقهاء في الموضحة في الرّأس والوجه, فقال جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة: إنّ الموضحة في الرّأس والوجه سواء, روي ذلك عن أبي بكر الصّدّيق وعمر الفاروق رضي الله عنهما وبه قال شريح ومكحول والشّعبي والنّخعيّ والزهري وربيعة وعبيد اللّه بن الحسن وإسحاق لعموم الأحاديث وقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: " الموضحة في الرّأس والوجه سواء ", فكان أرشها خمساً من الإبل كغيرها, ولا عبرة بكثرة الشّين بدليل التّسوية بين الموضحة الصّغيرة والكبيرة في الأرش. وقال المالكيّة: موضحة الرّأس مثل موضحة الوجه, إلّا إذا تشيّن الوجه فيزاد فيها لشينها. وإذا كانت الموضحة في الأنف أو في اللّحي الأسفل ففيها حكومة, لأنّها تبعد من الدّماغ فأشبهت موضحة سائر البدن. وقال سعيد بن المسيّب: إنّ موضحة الوجه تضعّف على موضحة الرّأس, فتجب في موضحة الوجه عشر من الإبل لأنّ شينها أكثر, فموضحة الرّأس يسترها الشّعر والعمامة. انظر مصطلح (ديات ف / 65). 9 - ويجب أرش الموضحة في الصّغيرة والكبيرة والبارزة والمستورة بالشّعر, لأنّ الموضحة تشمل الجميع وحد الموضحة ما أفضى إلى العظم ولو بقدر إبرة. وإن شجّه في رأسه شجّةً بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة, لأنّه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من أرش موضحة, فلأن لا يلزمه في الإيضاح في البعض أكثر من ذلك أولى. هـ - موضحة غير الرّأس والوجه: 10 - ليس في غير موضحة الرّأس والوجه مقدّر عند جمهور الفقهاء, لأنّ اسم الموضحة إنّما يطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرّأس. وقول الخليفتين الرّاشدين: " الموضحة في الرّأس والوجه سواء " يدل على أنّ باقي الجسد بخلافه, ولأنّ الشّين فيما في الرّأس والوجه أكثر وأخطر ممّا في سائر البدن, فلا يلحق به. ثمّ إيجاب ذلك في سائر البدن يفضي إلى أن يجب في موضحة العضو أكثر عن ديته, مثل أن يوضح أنملةً ديتها ثلاثة وثلثٌ, ودية الموضحة خمسٌ. وقال اللّيث بن سعد: إنّ الموضحة تكون في الجسد أيضاً, وقال الأوزاعي في جراحة الجسد على النّصف من جراحة الرّأس, وحكي ذلك عن عطاء الخراسانيّ قال: في الموضحة في سائر الجسد خمسة وعشرون ديناراً. و - تعدّي شين موضحة الرّأس: 11 - إن أوضحه في رأسه وجرّ السّكّين إلى قفاه فعليه أرش موضحة وحكومة لجرّ القفا, لأنّ القفا ليس بموقع للموضحة. وإن أوضحه في رأسه وجرّها إلى وجهه فعلى وجهين: أحدهما: أنّها موضحة واحدة, لأنّ الوجه والرّأس سواء في الموضحة, فصار كالعضو الواحد, والثّاني: هما موضحتان لأنّه أوضحه في عضوين, فكان لكلّ واحد منهما حكم نفسه, كما لو أوضحه في رأسه ونزل إلى القفا. قال ابن قدامة: إن أوضحه في رأسه موضحتين بينهما حاجزٌ فعليه أرش موضحتين لأنّهما موضحتان, فإن أزال الحاجز الّذي بينهما وجب أرش موضحة واحدة, لأنّه صار الجميع بفعله موضحةً, فصار كما لو أوضح الكلّ من غير حاجز يبقى بينهما. وإن اندملتا ثمّ أزال الحاجز بينهما فعليه أرش ثلاث مواضح, لأنّه استقرّ عليه أرش الأوليين بالاندمال, ثمّ لزمته دية الثّالثة. وإن تآكل ما بينهما قبل اندمالهما فزال لم يلزمه أكثر من أرش واحدة, لأنّ سراية فعله كفعله. وإن اندملت إحداهما وزال الحاجز بفعله أو سراية الأخرى فعليه أرش موضحتين. وإن أزال الحاجز أجنبيّ فعلى الأوّل أرش موضحتين وعلى الثّاني أرش موضحة, لأنّ فعل أحدهما لا يبنى على فعل الآخر, فانفرد كل واحد منهما بحكم جنايته. وإن أزال المجني عليه وجب على الأوّل أرش موضحتين لأنّ ما وجب بجنايته لا يسقط بفعل غيره. وإن اختلفا, فقال الجاني: أنا شققت ما بينهما, وقال المجني عليه: بل أنا, أو أزالها آخر سواك, فالقول قول المجنيّ عليه, لأنّ سبب أرش الموضحتين قد وجد, والجاني يدّعي زواله, والمجني عليه ينكره, والقول قول المنكر والأصل معه. وإن أوضح موضحتين ثمّ قطع اللّحم الّذي بينهما في الباطن, وترك الجلد الّذي فوقهما ففيها وجهان: أحدهما: يلزم أرش موضحتين لانفصالهما في الظّاهر, والثّاني: أرش موضحة لاتّصالهما في الباطن. وإنّ جرحه جراحاً واحدةً, وأوضحه في طرفيها, وباقيها دون الموضحة ففيه أرش موضحتين, لأنّ ما بينهما ليس بموضحة. ز - الوكالة بالصلح على الموضحة: 12 - نصّ الحنفيّة على أنّه: إذا وكّله بالصلح في موضحة وما يحدث منها, فصالح على موضحتين وما يحدث منهما وضمن جاز, على الموكّل النّصف ولزم الوكيل النّصف, سواء مات أو عاش, لأنّه في أحد الموضحتين ممتثل أمره وفي الأخرى متبرّع بالصلح كأجنبيّ آخر. فإن وكّله بالصلح في موضحة ادّعاها قبل فلان فصالح الوكيل عليها وعلى غيرها جاز عليها ولم يجز على غيرها, لأنّ وكيل الطّالب مسقط الحقّ بالصلح, وإنّما يصح إسقاطه بقدر ما أمره صاحب الحقّ, وفيما زاد على ذلك هو كأجنبيّ آخر, فلا يصح إسقاطه أصلاً. ولو وكّل المطلوب وكيلاً بالصلح في موضحة عمداً فصالح الوكيل على خدمة عبد الموكّل سنين فالصلح جائزٌ, لأنّ تسمية خدمة عبده كتسمية رقبة عبده, وذلك لا يمنع جواز الصلح, إلّا أن يكون الموكّل لم يرض بزوال ملكه عن منفعة عبده, فيخيّر في ذلك إن شاء رضي به وإن شاء لم يرض, وعليه قيمة الخدمة. ولو صالحه على خمر أو خنزير أو حر فهو عفو, ولا شيء على الآمر ولا على الوكيل, لأنّ القصاص ليس بمال, وإنّما يجب المال فيه بالتّسمية, وإذا كان المسمّى ليس بمال لا يجب شيء كالطّلاق. وإذا شجّ رجلان رجلاً موضحةً فوكّل وكيلاً يصالح مع أحدهما بعينه على مائة درهم جاز - كما لو باشر الصلح بنفسه - وعلى الآخر نصف الأرش, لأنّ الواجب بالجناية على كلّ واحد منهما نصف الأرش دون القود, فإنّ الاشتراك في الفعل يمنع وجوب القود فيما دون النّفس. وإن وكّله: أن صالِحْ مع أحدهما, ولم يبيّن أيّهما هو فهو جائزٌ, لأنّ هذه جهالة مستدركة ومثلها لا يمنع صحّة الوكالة, ثمّ الرّأي إلى الوكيل يصالح أيّهما شاء. وكذلك لو كان الشّاج واحداً والمشجوج اثنين, فوكّل وكيلاً بالصلح عنهما, فصالح عن أحدهما ولم يسمّه ثمّ قال الوكيل: هو فلان, فالقول قوله لأنّه ممتثل أمره في حقّ من صالح معه وهو المباشر للعقد وإليه تعيين ما باشر من العقد, لأنّه كان مالكاً للتّعيين في الابتداء فكذا في الانتهاء يصح تعيينه. وإذا اشترك حر وعبد في موضحة شجّاها رجلاً, فوكّل الحر ومولى العبد وكيلاً, فصالح عنهما على خمسمائة, فعلى مولى العبد نصف ذلك, قلت قيمة العبد أو كثرت, وعلى الحرّ نصفه لأنّ كلّ واحد منهما كان مطالباً بنصف الجناية. وإذا وكّله بالصلح في موضحة شجّها إيّاه رجل, فصالح على الموضحة الّتي شجّها فلان ولم يقل هي في موضع كذا فهو جائزٌ, لأنّه عرّفها بالإضافة إلى فلان, ومحل فعل فلان معلوم معاين فيغني ذلك عن الإشارة إليه.
1 - الموقوذة في اللغة: هي الّتي ترمى أو تضرب بالعصا أو بالحجر حتّى تموت من غير تذكية. والوقيذ: هو الّذي يغشى عليه, لا يُدرى أميّت هو أم حيّ ؟ والوقيذ أيضاً: الشّديد المرض المشرف على الموت. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ. أ - المنخنقة: 2 - المنخنقة في اللغة: هي الّتي تموت خنقاً, وهو حبس النّفس, سواء فعل بها ذلك آدميّ أو اتّفق لها ذلك في حبل, أو بين عودين أو نحو ذلك. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ. والعلاقة بين الموقوذة والمنخنقة: أنّ كلاً منهما يحرم أكله, لعدم الذّبح. ب - المتردّية: 3 - المتردّية في اللغة متفعّلة من الرّدى وهو الهلاك, والتّردّي: التّعرض للهلاك, ومنه قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ}. والمتردّية هي: الشّاة أو نحوها الّتي تتردّى من العلوّ إلى السفل فتموت, سواء كان من جبل أو في بئر ونحوه, وسواء تردّت بنفسها أو ردّاها غيرها. ولا يخرج معناها الاصطلاحي عن معناها اللغويّ. والعلاقة بين الموقوذة والمتردّية: أنّ كلاً منهما يحرم أكله, لأنّه مات من غير ذكاة. ج - النّطيحة: 4 - النّطيحة في اللغة: فعيلة بمعنى مفعولة, وهي: الشّاة تنطحها أخرى أو غيرها فتموت قبل أن تذكّى. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ. والعلاقة بين الموقوذة والنّطيحة: أنّ كلاً منهما يحرم أكل لحمه لكونه مات من غير ذكاة. د - ما أكل السّبع: 5 - ما أكل السّبع هو: كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنّمر والثّعلب والذّئب والضّبع ونحوها. والعلاقة بين الموقوذة وما أكل السّبع أنّ كلاً منهما يحرم أكله إذا مات من غير ذكاة.
6 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الموقوذة لا يحل أكل لحمها إذا لم يتمّ ذبحها لقوله تعالى في تعداد ما يحرم أكله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}. قال العلماء: كان أهل الجاهليّة يضربون الأنعام بالخشب والحجر ونحوها حتّى يقتلوها فيأكلونها. ولحديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض فقال: «ما أصاب بحدّه فكله, وما أصاب بعرضه فهو وقيذ». وفي رواية: «إذا أصبت بحدّه فكل, فإذا أصاب بعرضه فإنّه وقيذ, فلا تأكل», قال النّووي: وقيذ, أي: مقتول بغير محدّد. والموقوذة المقتولة بالعصا ونحوها, وأصل الوقذ من الكسر والرّضّ. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يقول في المقتولة بالبندقة: تلك الموقوذة. 7 - وقد اختلف العلماء قديماً وحديثاً كما قال القرطبي في الصّيد بالبندق والحجر والمعراض. فذهب جمهور الفقهاء وهم الحنفيّة والمالكيّة, والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ كلّ ما يقتل بغير محدّد من عصاً أو حجر أو غيرهما فهو وقيذ لا يحل أكله إلّا إذا أدركت ذكاته. والتّفصيل في مصطلح (صيد ف / 31 - 36).
8 - قال الجصّاص: قد اختلف الفقهاء في ذكاة الموقوذة ونحوها, فذكر محمّد: أنّه إذا أدركت ذكاتها قبل أن تموت أكلت لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} حيث يقتضي ذكاتها ما دامت حيّةً, ولا فرق في ذلك بين أنّ تعيش من مثله أو لا تعيش, ولا بين أن تبقى قصير المدّة أو طويلها, ولما روي عن علي وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم من أنّه: إذا تحرّك شيء منها صحّت ذكاتها, ولم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المتلفة الّتي قد تعيش معها مدّةً قصيرةً أو طويلةً أنّ ذكاتها بالذّبح, فكذلك الموقوذة ونحوها. قال إسحاق: ومن خالف هذا فقد خالف السنّة من جمهور الصّحابة وعامّة العلماء. وقال بعض العلماء: ومنهم أبو يوسف والحسن بن صالح, وهو القول المشهور عن مالك, وهو قول أهل المدينة: إذا صارت الموقوذة وأمثالها إلى حال لا تعيش معها فلا يحل أكل لحمها وإن تمّ ذبحها قبل الموت. وقال ابن العربيّ: اختلف قول مالك في هذه الأشياء فروي عنه: أنّه لا يؤكل إلّا ما ذكّي بذكاة صحيحة, والّذي في الموطّأ: أنّه إن كان ذبحها ونفسها يجري وهي تضطرب فليأكل, وهو الصّحيح من قوله الّذي كتبه بيده, وقرأه على النّاس من كلّ بلد طول عمره, فهو أولى من الرّوايات النّادرة.
1 - الموقوف لغةً: اسم مفعول لفعل: وقف, بمعنى: سكن وحبس ومنع, يقال: وَقَفَتْ الدّابّة: سكنتْ, ووقفتها أنا: منعتُها من السّير ونحوه, ووقفتُ الدّار: حَبَسْتُها في سبيل اللّه, فهي موقوفة. ويطلق على عكس الجلوس, يقال: وقف الرّجل: قام عن مجلسه, وعلى المنع: وقفته عن الكلام: مَنَعْتُه عنه. والموقوف في اصطلاح الفقهاء يطلق على معنيين: المعنى الأوّل: يطلق على كلّ عين محبوسة في سبيل البرّ والخير بشروط. والمعنى الثّاني: يطلق على العقد الموقوف, وهو ما كان مشروعاً بأصله ووصفه, ويفيد الملك على سبيل التّوقف, ولا يفيد تمامه لتعلق حقّ الغير به. والموقوف عند علماء الحديث: ما روي عن الصّحابة من أحوالهم وأقوالهم, فيتوقّف عليهم ولا يتجاوز إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم. أ - الصّدقة: 2 - الصّدقة في اللغة: ما يعطى على وجه التّقرب إلى اللّه تعالى. وفي الاصطلاح: هي العطيّة تبتغي بها المثوبة من اللّه تعالى. والصّلة بين الموقوف والصّدقة العموم والخصوص, فليس كل موقوف صدقةً, وليس كل صدقة موقوفاً. ب - الموصى به: 3 - الموصى به اسم لما يتبرّع به الإنسان من مال في حال حياته تبرعاً مضافاً لما بعد الموت. والصّلة بين الموقوف والموصى به أنّ كلاً منهما بذل مال بلا عوض ابتغاء المثوبة من اللّه تعالى.
أ - ما يجوز وقفه وما لا يجوز: 4 - اختلف الفقهاء في بعض أحكام الموقوف: فذهب جمهور الفقهاء: المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة: إلى أنّه يصح وقف العقار والمنقول, كحيوان وسلاح وأثاث ونحو ذلك, لقوله صلى الله عليه وسلم: «أمّا خالد فإنّكم تظلمون خالداً فإنّه احتبس أدرعه وأعتده في سبيل اللّه». ولأنّ الأمّة اتّفقت في جميع الأعصار والأزمان على وقف الحصر والقناديل والزّلاليّ في المساجد من غير نكير. وذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط في حبس العين للبرّ أن تكون ممّا لا ينقل ولا يحوّل كالعقار, فلا يصح عندهم وقف المنقول مقصوداً, لأنّ التّأبيد شرط جوازه, ووقف المنقول لا يتأبّد لكونه على شرف الهلاك, فلا يجوز وقفه مقصوداً. ويجوز إن كان تبعاً لما لا ينقل كالعقار. وللفقهاء تفصيل فيما يشترط في وقف العقار والمنقول والمنفعة. وينظر تفصيله في مصطلح (وقف). ب - انتقال ملكيّة الموقوف من الواقف بالوقف: 5 - اختلف الفقهاء في انتقال ملكيّة الموقوف بالوقف على ثلاثة آراء: الرّأي الأوّل: ذهب الشّافعيّة في أظهر أقوال ثلاثة لهم, وأبو يوسف ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة إلى أنّ ملك رقبة الموقوف تنتقل من ملك الواقف إلى اللّه سبحانه وتعالى. ومعنى انتقاله إلى اللّه: أنّ الملك ينفك من اختصاص الآدميّ, وإلّا فجميع الأشياء ملك له سبحانه وتعالى فلا تكون للواقف ولا للموقوف عليه. غير أنّه عند الشّافعيّة وأبي يوسف أنّ الملكيّة تنتقل بمجرّد التّلفظ بصيغة صحيحة من صيغ الوقف. وعند محمّد بن الحسن لا تنتقل بالقول حتّى يجعل للموقوف وليّاً يسلّمه إليه. ولا فرق في انتقال الملك إلى اللّه بين أن يكون الموقوف عليه معيّناً كزيد وعمرو, وبين أن يكون جهةً عامّةً كالرّباط والمدارس والغزاة والفقراء. واستدلوا بما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أصاب عمر أرضاً بخيبر فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها. فقال: يا رسول اللّه, إنّي أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به ؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها قال: فتصدّق بها عمر أنّه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب. قال: فتصدّق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرّقاب وفي سبيل اللّه وابن السّبيل والضّيف, لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متموّل فيه». وقال عليه الصلاة والسلام عليه الصّلاة والسّلام عليه الصلاة والسلام: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلّا من ثلاثة: إلّا من صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له»، ولأنّ الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم إلى يومنا هذا قد تعاملوه فكان إجماعاً ولأنّ الحاجة ماسّة إلى أن يلزم الوقف ليصل ثوابه إليه على الدّوام, وأمكن دفع هذه الحاجة بإسقاط الملك وجعله للّه تعالى كما في المسجد, ويخرج عن ملك الواقف كما يخرج المسجد. ولهذا قال الشّافعيّة وأبو يوسف بزوال الملك بمجرّد القول - كما سبقت الإشارة إليه - لأنّه أسقط حقّه للّه فصار كالعتق, وقال محمّد: لا يزول الملك حتّى يسلّمه إلى المتولّي لأنّه صدقة, فيكون التّسليم من شرطه كالصّدقة المنفّذة, ولأنّ التّمليك من اللّه تعالى لا يتحقّق قصداً لأنّه مالك الأشياء كلّها, ولكنّه يثبت في ضمن التّسليم إلى العبد. الرّأي الثّاني: ذهب أبو حنيفة و المالكيّة على المشهور و الشّافعيّة في قول إلى أنّ الموقوف يبقى على ملك الواقف إذا لم يجعله مسجداً, ولهم تفصيل بيانه كالآتي: قال أبو حنيفة: لا يزول الملك إلّا بقضاء قاض يرى ذلك, لأنّه فصل مجتهد فيه, فينفذ قضاؤه. واستدلّ بحديث: «لا حبس عن فرائض اللّه»، ولأنّ الملك فيه باق, إذ غرضه التّصدق بغلّته, وهو لا يتصوّر إلّا إذا بقي الأصل على ملكه, ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام عليه الصّلاة والسّلام عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه: «احبس أصلها وسبّل ثمرتها» أي: احبسه على ملكك وتصدّق بثمرتها, وإلّا كان مسبّلاً جميعها, ولأنّ خروج الملك لا إلى مالك غير مشروع, ألا ترى أنّ اللّه تعالى نهانا عن السّائبة, وهي الّتي يسيّبها مالكها ويخرجها عن ملكه بزعمهم, قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ}. وفرّقوا بين هذا وبين جعل البقعة مسجداً أو الوقف عليه والعتق, حيث يزول الملك بهما, لأنّه يحرز عن حقّ العبد حتّى لا يجوز له أن ينتفع به, ولهذا لا ينقطع عنه حق العبد حتّى كان له ولاية التّصرف فيه بصرف غلّاته إلى مصارفه, ونصب القيّم, ولأنّه تصدّق بالغلّة أو المنفعة المعدومة وهو غير جائز إلّا في الوصيّة. وقال المالكيّة في المشهور: إنّ ملك العين الموقوفة ثابت للواقف, لأنّ الوقف ليس من باب الإسقاط فلا يزول به الملك, بل يبقى في ملك الواقف, وللواقف في حياته منع من يريد إصلاحه لئلّا يؤدّي الإصلاح إلى تغيير معالمه, ولوارثه ذلك بعد موته, فإن لم يمنع الوارث فللإمام ذلك, هذا إذا قام الورثة بإصلاحه, وإلّا فلغيرهم إصلاحه. وقال الشّافعيّة في القول الثّاني: يبقى ملك رقبة الموقوف للواقف, لأنّه حبس الأصل وسبّل الثّمرة, وذلك لا يوجب زوال ملكه. الرّأي الثّالث: ذهب الحنابلة و الشّافعيّة في قول ثالث إلى التّفرقة بين ما يوقف على شخصٍ أو جهة معيّنة وبين ما يوقف على جهة عامّة, حيث يبقى الأوّل على ملك الواقف, والثّاني ينتقل إلى ملك اللّه تعالى ولهم في ذلك تفصيل. قال الحنابلة: إن كان الموقوف عليه جهةً عامّةً, كالمدارس والرّباط والمساجد والفقراء والغزاة, فإنّ ملك الرّقبة ينتقل إلى اللّه تعالى وهذا عندهم بلا خلاف, وإن كان الموقوف عليه آدميّاً معيّناً أو عدداً من الآدميّين محصورين كأولاده أو أولاد زيد: ينتقل الملك إلى الموقوف عليه, فيملكه كالهبة. وقال الشّافعيّة في القول الثّالث لهم: ينتقل الموقوف إلى الموقوف عليه إلحاقاً بالصّدقة وهذا كله إذا وقف على شخصٍ أو جهة عامّة, أمّا إذا جعل البقعة مسجداً أو مقبرةً فهو فك عن الملك, فينقطع منه اختصاص الآدميّين قطعاً. ج - الانتفاع بمنافع الموقوف: 6 - منافع الموقوف على معيّن ملك للموقوف عليه يستوفيها بنفسه وبغيره, بإعارة وإجارة كسائر الأملاك, ولكن لا يؤجّر إلّا إذا كان ناظراً أو أذن له النّاظر في تأجيرها. وكذلك يملك فوائد الموقوف الحاصلة بعد الوقف عند الإطلاق أو شرط أنّها للموقوف عليه كأجرة العقار ونحوها, وزوائد الموقوف كثمرة, وصوف, ولبن, وكذا الولد الحادث بعد الوقف عند الإطلاق, أو شرط الولد له في الأصحّ عند الشّافعيّة فيملكه كالثّمرة واللّبن, وفي قول للشّافعيّة: إنّ الولد يكون وقفاً تبعاً لأمّه, ولو كانت حاملاً عند الوقف فولدها وقف على القول الثّاني وكذا على الأوّل بناءً على أنّ الحمل يعلم, وهذا الأصح عندهم. وإن ماتت البهيمة اختصّ الموقوف عليه بجلدها, لأنّه أولى من غيره. وكل هذا ما لم يعيّن الواقف غير ذلك من أوجه الانتفاع. د - حكم بدل العين الموقوفة إذا تلفت: 7 - لا يملك الموقوف عليه بدل العين الموقوفة إن تلفت تحت يد ضامنة, بل يشتري بها مثلها لتكون وقفاً مكانها مراعاةً لغرض الواقف في استمرار الثّواب. والّذي يتولّى الشّراء والوقف هو الحاكم بناءً على أنّ الموقوف ملك للّه, ولا فرق بين أن يكون للوقف ناظر خاص أو لا. أمّا ما اشتراه النّاظر من ماله أو من ريع الموقوف أو يعمره منهما أو من أحدهما لجهة الوقف فالمنشئُ هو النّاظر, وكذا ما يشتريه الحاكم ببدل المتلف لا يصير موقوفاً حتّى يقفه الحاكم. أمّا ما يقوم النّاظر أو الحاكم من ترميم الموقوف وإصلاح جدرانه فليس وقفاً منشئاً, لأنّ العين في مسألة شراء بدل العين التّالفة بمثلها فاتت بالكلّيّة, أمّا الأراضي الموقوفة فهي باقية, والطّين والحجر المبني بهما كالوصف التّابع للموقوف. وعند المالكيّة والحنابلة: يصير البدل وقفاً بلا حاجة إلى إنشاء وقف جديد. ونصّ المالكيّة على أنّه يصير وقفاً إذا أمكن وإلّا تصدّق بالثّمن. هـ - الجناية على العبد الموقوف وجنايته: 8 - إن كان الموقوف قناً وكان قتله عمداً فليس للموقوف عليه عفو مجّاناً ولا قود, لأنّه لا يختص بالموقوف عليه, بل هو كعبد مشترك, فيشترى بقيمته بدله: أي مثله. واعتبار المثليّة في البدل المشترى معناه: وجوب الذّكر في الذّكر, والأنثى في الأنثى, والكبير في الكبير, وسائر الأوصاف الّتي تتفاوت الأعيان بتفاوتها, ولا سيّما الصّناعية المقصودة في الوقف, لأنّ الغرض جبران ما فات ولا يحصل بدون ذلك. وإن كانت الجناية قطع بعض أطرافه عمداً فللقنّ الموقوف استيفاء القصاص لأنّه حقه لا يشركه فيه أحد. وإن عفا القن الموقوف عن الجناية عليه أو كانت الجناية لا توجب القصاص لعدم المكافأة أو لكونها خطأً وجب نصف قيمته فيما إذا كانت الجناية قطع يد أو رجل ممّا فيه نصف دية في الحرّ وإلّا فبحسابه ويشترى بالأرش مثله أو شقص بدله. وإن جنى العبد الموقوف خطأً فالأرش على الموقوف عليه إن كان الموقوف عليه معيّناً ولم يتعلّق برقبته, لأنّه لا يمكن تسليمه كأمّ الولد. ولم يلزم الموقوف عليه أكثر من قيمته فيجب أقل الأمرين من القيمة أو أرش الجناية. 9 - وإن كان الموقوف عليه غير معيّن كالمساكين وجنى فأرش الجناية في كسبه, لأنّه ليس له مستحق معيّن يمكن إيجاب الأرش عليه, ولا يمكن تعلقها برقبته فتعيّن في كسبه. وإن جنى الموقوف جنايةً توجب القصاص وجب القصاص لعموم قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}. فإن قتل قصاصاً بطل الوقف كما لو مات حتف أنفه, وإن قطع كان باقيه وقفاً. و - عطب الموقوف بسبب غير مضمون: 10 - قال الشّافعيّة: إذا تعطّلت منفعة الموقوف, كأن جفّت الشّجرة أو قلعها ريح أو سيل أو نحو ذلك ولم يمكن إعادتها إلى مغرزها قبل جفافها لم ينقطع الوقف على المذهب وإن امتنع وقفها ابتداءً لقوّة الدّوام بل ينتفع بها جذعاً بإجارة أو غيرها إدامةً للوقف في عينها, ولا تباع ولا توهب, وقيل: تباع لتعذر الانتفاع كما شرطه الواقف, والثّمن على هذا القول حكمه كقيمة المتلف. وقال الحنابلة: يصح بيع شجرة موقوفة يبست وبيع جذع موقوف إن انكسر أو بلي أو خيف الكسر أو الهدم, وقال البهوتيّ نقلاً عن صاحب التّلخيص: إذا أشرف الجذع الموقوف على الانكسار أو داره على الانهدام وعلم أنّه لو أخّر لخرج عن كونه منتفعاً به فإنّه يباع رعايةً للماليّة, أو ينقض تحصيلاً للمصلحة. والمدارس والربط والخانات المسبّلة ونحوها جاز بيعها عند خرابها, ويصح بيع ما فضل من نجارة خشب الموقوف ونحاتته وإن شرط الواقف عدم البيع في هذه الحالة لأنّه شرطٌ فاسد, لخبر: «ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب اللّه». وإن بيع الموقوف يصرف ثمنه في مثله أو بعض مثله إن لم يمكن في مثله, لأنّ في إقامة البدل مقامه تأبيداً له وتحقيقاً للمقصود فتعيّن وجوبه, ويصرف في جهته وهي مصرفه, لامتناع تغيير المصرف مع إمكان مراعاته. وإن تعطّلت الجهة الّتي عيّنها الواقف صرف في جهة مثلها, فإذا وقف على الغزاة في مكان فتعطّل الغزو فيه, صرف البدل إلى غيرهم من الغزاة في مكان آخر تحصيلاً لغرض الواقف في الجملة حسب الإمكان. ز - عمارة الموقوف: 11 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يلزم عمارة الموقوف حتّى لا يضيع الوقف وتتعطّل أغراضه. واختلفوا في الجهة الّتي ينفق منها على العمارة: فذهب الحنفيّة والمالكيّة في المشهور إلى أنّ العمارة تكون من غلّة الموقوف, سواء شرط الواقف ذلك أو لم يشرط. وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يتبع شرط الواقف. والتّفصيل في مصطلح (وقف). ج - نَقْض الموقوف: 12 - قال الحنفيّة: إذا انهدم البناء الموقوف يصرف نقضه إلى عمارته إن احتاج, وإلّا حفظه إلى الاحتياج, لأنّه لا بدّ من العمارة, لأنّ الموقوف لا يبقى بدونها فلا يحصل صرف الغلّة إلى المصرف على التّأبيد, فيبطل غرض الواقف إلى المصرف على التّأبيد, فيصرفه للحال إن احتاج إليه. وإن لم يحتج يمسكه حتّى يحتاج إليه كي لا يتعذّر عليه أوان الحاجة. ولا يقسم النّقض على مستحقّي غلّة الموقوف لأنّهم ليس لهم حق في العين ولا في جزء منه وإنّما حقهم في المنافع, فلا يصرف إليهم غير حقّهم, وإن تعذّر إعادة عينه بيع وصرف ثمنه إلى العمارة, لأنّ البدل يقوم مقام المبدل فيصرف مصرف البدل. وقال المالكيّة: ونقض الحبس لا يجوز بيعه ولا يجوز أن يبدل ريع خرب بريع غير خرب إلّا لتوسعة مسجد. وقال الشّافعيّة: لو انهدم مسجد وتعذّرت إعادته لم يبع بحال لإمكان الانتفاع به حالاً بالصّلاة في أرضه, نعم لو خيف على نقضه نقض وحفظ ليعمر به مسجداً آخر إن رآه الحاكم, والمسجد الأقرب أولى, وبحث الأذرعي تعين مسجد خصّ بطائفة خصّ بها المنهدم إن وجد وإن بعد.
13 - قال الحنفيّة: إنّ كلّ تصرف في حقّ الغير بغير إذن منه تمليكاً كان كبيع وتزويج, أو إسقاطاً كطلاق وإعتاق وله مجيزٌ: أي له من له حق الإجازة حال وقوعه انعقد موقوفاً. أمّا ما لا مجيز له لا ينعقد أصلاً. فإن باع صبيّ مثلاً ثمّ بلغ قبل إجازة وليّه فأجاز بنفسه بعد البلوغ جاز, لأنّه كان له مجيزٌ في حالة العقد وهو الولي, أمّا إن طلّق الصّبي زوجته مثلاً قبل البلوغ فأجازه بنفسه بعد البلوغ لم يصحّ, لأنّه لم يكن للإسقاط مجيزٌ في وقت العقد لأنّ الوليّ لا يملك إيقاع الطّلاق على زوجة مولّيه فلا يملك إجازته. (ر: البيع الموقوف).
14 - قسّم الحنفيّة التّصرف الموقوف إلى: موقوف قابل للصّحّة, وموقوف فاسد. والموقوف القابل للصّحّة: هو ما كان صحيحاً في أصل وصفه ويفيد الملك على سبيل التّوقف ولا يفيد تمامه لتعلق حقّ الغير, ويتناول كلّ تصرف في حقّ الغير بغير إذن منه تمليكاً كان التّصرف كبيع الفضوليّ والصّبيّ والعبد المحجورين, أم إسقاطاً كالطّلاق والإعتاق. والتّمليك يشمل الحقيقيّ كالبيع ونحوه ممّا ينقل الملك, والحكمي كالتّزويج, وهذا من قسم الصّحيح. والفاسد الموقوف ما كان مشروعاً في أصله لا في وصفه, كبيع المكره وسائر التّصرفات الفاسدة. وهذا النّوع يسمونه: موقوفاً فاسداً فلا يثبت به الملك إلّا بالقبض عند جمهور فقهاء الحنفيّة فإذا باع مكرهاً وسلّم مكرهاً ثبت فيه الملك عند أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمّد بن الحسن. وقال زفر: لا يثبت الملك بالتّسليم مكرهاً لأنّه موقوف على الإجازة فلا يفيد الملك قبلها, وقال الأئمّة الثّلاثة - أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد - إنّ ركن البيع صدر من أهله مضافاً إلى محلّه, والفساد لفقد شرطه وهو الرّضا, فصار كسائر الشّروط الفاسدة فيثبت الملك بالقبض, حتّى لو قبضه وأعتق أو تصرّف به أيّ تصرف - لا يمكن نقضه - جاز, ويلزمه القيمة كسائر البياعات الفاسدة. وبإجازة المالك يرتفع المفسد وهو الإكراه وعدم الرّضا فيجوز إلّا أنّه لا ينقطع حق استرداد البائع بالإكراه وإن تداولته الأيدي ولم يرض البائع بذلك. وعند المالكيّة إذا تصرّف إنسان في ملك غيره بغير إذنه فإنّه يتوقّف نفاذ هذا التّصرف على إجازة من له حق الإجازة وذلك كبيع الفضوليّ ملك غيره فإنّ نفاذه يتوقّف على إجازة مالكه. وكبيع الغاصب الشّيء المغصوب لغير المغصوب منه. وكطلاق الفضوليّ, فإنّه صحيح متوقّف على إجازة الزّوج. 15 - والوقف يطلقه فقهاء الشّافعيّة لبيان ما يحدث في العبادات وفي العقود, فمن الأوّل حج الصّبيّ, فإن دام صبيّاً إلى آخر أعمال الحجّ كان نفلاً, وإن بلغ قبل الوقوف بعرفة انقلب فرضاً. ومنها: إذا كان عليه سجود السّهو فسلّم ساهياً قبل الإتيان بسجود السّهو فتذكّر قريباً ففي صحّة سلامه وجهان: فإن صحّحناه فقد فات محل السجود, وإن أبطلناه فإن سجد فهو باق في الصّلاة ولو أحدث لبطلت صلاته, وإن ترك السجود فقال الإمام: الظّاهر إنّه في الصّلاة ولا بدّ من السّلام. ويحتمل أن يقال: السّلام موقوف فإن سجد تبيّن أنّه في الصّلاة وإن ترك تبيّن أنّه قد تحلّل. أمّا في العقود فالوقف فيها يعبّر به عن ثلاث مسائل: الأولى: بيع الفضوليّ في القول القديم للشّافعيّ: وهو وقف صحّة بمعنى أنّ الصّحّة موقوفة على الإجازة فلا تحصل إلّا بعدها, هذا ما نقله النّووي عن الأكثرين, ونقل الرّافعي عن الإمام: أنّ الصّحّة ناجزة والمتوقّف على الإجازة هو الملك. الثّانية: بيع مال مورّثه ظاناً حياته, وهو وقف تبين بمعنى أنّ العقد فيه صحيح ونحن لا نعلمه ثمّ تبيّن في ثاني الحال فهو وقف على ظهور أمر كان عند العقد, والملك فيه من حين العقد ولا خيار فيه. الثّالثة: تصرفات الغاصب وهي ما إذا غصب أموالاً وباعها وتصرّف في أثمانها بحيث يعسر أو يتعذّر تتبعها بالنّقض ففي قول عندهم: للمالك أن يجيز ويأخذ الحاصل من أثمانها. 16 - وتنحصر التّصرفات الموقوفة عند الشّافعيّة في ستّة أنواع: وضبط الإمام الوقف الباطل في العقود بتوقف العقد على وجود شرط قد يتخلّف عنه, كبيع الفضوليّ. وهذه الأنواع السّتّة هي: الأوّل: ما يتوقّف على حصول شرط بعده فهو باطل في القول الجديد للإمام الشّافعيّ لأنّه يتوقّف على إجازة المالك. الثّاني: ما يتوقّف على تبيين وانكشاف سابق على العقد فهو صحيح كبيع مال أبيه ظاناً حياته. وألحق به الرّافعي: ما إذا باع العبد على ظنّ أنّه آبق أو مكاتب وكان قد عجّز نفسه, أو فسخ الكتابة, وكذلك لو اشترى لغيره على ظنّ أنّه فضوليّ فبان أنّه قد وكّله في ذلك يصح في الأصحّ, بناءً على القول: أنّ الوكالة لا تتوقّف على القبول وأنّه يكون وكيلاً قبل بلوغ الخبر إليه. الثّالث: ما توقّف على انقطاع تعد فقولان: الأصح الإبطال كبيع المفلس ماله ثمّ يفك الحجر عنه وهو باق على ملكه. والقول الثّاني: أنّه موقوف على الفكّ إن وجد نفذ وإلّا فلا, وعلى هذا القول: فهو وقف تبيين. والرّابع: ما توقّف على ارتفاع حجر حكمي خاصّ كأن يقيم العبد شاهدين على عتقه ولم يعدلا, فإنّ الحاكم يحجر على السّيّد في التّصرف فيه إلى التّعديل, فلو باعه السّيّد في هذه الحالة ثمّ تبيّن عدم عدالتهم فعلى قول الوقف في صورة المفلس كما سبق, بل أولى لأنّها أخص منها لوجود الحجر هنا على العين خاصّةً, وهناك على العموم. الخامس: ما توقّف لأجل حجر شرعي من غير الحاكم وفيه صورتان: إحداهما: تصرف المريض بالمحاباة فيما يزيد على قدر الثلث فيها, وفيها قولان, أحدهما: أنّها باطلة وأصحهما أنّها موقوفة بإجازة الورثة, فإن أجازها الوارث صحّت وإلّا بطلت. ثانيتها: إذا أوصى بعين حاضرة هي ثلث ماله وباقي المال غائب فتصرّف الورثة في ثلثي الحاضر ثمّ بان تلف الغائب فألحقها الرّافعي ببيع الفضوليّ, وخالفه النّووي فألحقها ببيع مال مورّثه يظن حياته, وقال الزّركشي: وهذا أشبه, لأنّ التّصرف هنا صادف ملكه فهي ببيع الابن أشبه منه بالفضوليّ. السّادس: ما توقّف لأجل حجر وضعي أي باختيار المكلّف كالرّاهن يبيع المرهون بغير إذن المرتهن فهو باطل على الجديد, وعلى القديم الّذي يجيز وقف التّصرفات يكون موقوفاً على الانفكاك وعدمه, وألحقه الإمام ببيع المفلس ماله. هذا وأنّ الوقف الممتنع عند الشّافعيّة إنّما هو في الابتداء دون الاستدامة, لهذا قالوا: لو ارتدّت المرأة كان استدامة النّكاح موقوفاً, فإن أسلمت في العدّة دام النّكاح, وإلّا بانت, ولا يجوز ابتداء نكاح مرتدّة. وقد يصح العقد ويبقى الملك موقوفاً في ملك المبيع في زمن الخيار إذا كان الخيار لهما على الأصحّ. وملك الموصى له الوصيّة بعد الموت وقبل القبول الأصح أنّه موقوف, إن قبل تبيّنّا أنّه ملك من حين الموت, وإلّا تبيّنّا أنّه على ملك الوارث. وكذلك ملك المرتدّ ماله, فإن تاب تبيّن أنّ ملكه لم يزل وإن قتل حداً أو مات حتف أنفه تبيّنّا أنّ ملكه زال من حين الارتداد.
17 - وهو ما يروى عن الصّحابة رضي الله عنهم من أقوالهم أو أفعالهم ونحوها فيوقف عليهم ولا يتجاوز به إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. ثمّ إنّ منه ما يتّصل الإسناد فيه إلى الصّحابيّ فيكون من الموقوف الموصول, ومنه ما لا يتّصل إسناده فيكون من الموقوف غير الموصول على حسب ما عرف مثله في المرفوع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. والتّفصيل في الملحق الأصوليّ.
1 - مولى العتاقة مركّب من لفظين: مولًى, والعتاقة. والمولى: يطلق في اللغة على معان: يطلق على ابن العمّ, وعلى العصبة عامّةً, والحليف: وهو مولى الموالاة, وعلى مولى العتاقة, وعلى العتيق, وعلى من أسلم بيده شخص. أمّا العتاقة لغةً: فهي من عتق العبد عتاقةً, من باب ضرب: خرج من المملوكيّة. ومولى العتاقة في الاصطلاح: هو المعتق, وهو من له ولاء العتاقة, ويطلق على من عتق عليه رقيق أو مبعّضٌ, بإعتاق منجّز استقلالاً, أو بعوض كبيع العبد من نفسه, أو ضمناً كقوله لغيره: أعتق عبدك عنّي فأجابه, أو كتابةً منه وتدبيراً واستيلاداً أو قرابةً كأن يملك من يعتق عليه من أقاربه بإرث أو شراء أو هبة. وولاء العتاقة يسمّى أيضاً ولاء نعمة, لأنّ المعتق أنعم على المعتق حيث أحياه حكماً. قال اللّه تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}, أي أنعم اللّه عليه بالهدى, وأنعمت عليه بالإعتاق. مولى الموالاة: 2 - مولى الموالاة هو شخص مجهول النّسب آخى معروف النّسب ووالاه, فقال: إن جنت يديّ جنايةً تجب ديتها على عاقلتك, وإن حصل لي مال فهو لك بعد موتي. ويسمّى هذا العقد: موالاةً, والشّخص المعروف النّسب: مولى الموالاة.
3 - لا خلاف بين أهل العلم في أنّ من عتق عليه رقيق بإعتاق منجّر, إمّا استقلالاً أو بعوض كبيع العبد من نفسه, أو بفرع من الإعتاق ككتابة, وتدبير واستيلاد, أو بملك قريب يعتق عليه, فله ولاؤه, ويسمّى مولى العتاقة. وإن أعتقه عن واجب عليه ككفّارة عن قتل, أو ظهار, أو إفطار في نهار رمضان بجماع, أو بغيره على اختلاف بين الفقهاء في ذلك, أو عن إيلاء, أو كفّارة يمين أو عن نذر, فله ولاؤه أيضاً. لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «الولاء لمن أعتق»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الولاء لحمة كلحمة النّسب»، وعن الحسن قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «الميراث للعصبة, فإن لم يكن عصبة فالولاء»، وورد: «أنّ رجلاً مات على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولم يدع وارثاً إلّا عبداً هو أعتقه, فأعطاه النّبي صلى الله عليه وسلم ميراثه». وأجمع العلماء على أنّ مولى العتاقة يرث عتيقه, إن مات ولم يخلّف وارثاً سواه.
4 - مولى العتاقة مقدّم في التّوريث على ذوي الأرحام, ومقدّم على الرّدّ على أصحاب الفروض, إذا بقي بعد الفروض شيء من التّركة ولم توجد عصبة النّسب عند جمهور الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم, ومؤخّر عن العصبة النّسبيّة. فإذا مات رجل وخلّف بنته ومولاه: فلبنته النّصف, والباقي لمولاه, وإن خلّف ذا رحم ومولاه: فالمال لمولاه دون ذي رحمه. وعن عمر وعلي رضي الله عنهما: يقدّم الرّد على مولى العتاقة, وعنهما وعن ابن مسعود رضي الله عنهم: تقديم ذوي الأرحام على مولى العتاقة, قال ابن قدامة: ولعلّهم يحتجون بقول اللّه تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ}. وإن كان للمعتق عصبة من نسبه, أو ذو فرض يستغرق التّركة, فلا شيء للمولى. قال ابن قدامة: لا نعلم في ذلك خلافاً لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي فلأولى رجل ذكر». والعصبة من القرابة أولى من مولى العتاقة, لأنّه مشبّه بالقرابة, والمشبّه به أقوى من المشبّه, ولأنّ النّسب أقوى من الولاء بدليل أنّه يتعلّق به التّحريم والنّفقة وسقوط القصاص ورد الشّهادة, ولا يتعلّق شيء من ذلك بالولاء. وانظر مصطلح (إرثٌ ف / 63 وما بعدها).
5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الولاء يثبت للكافر على المسلم كعكسه وإن لم يتوارثا. واستدلوا على عدم التّوارث في حالة اختلاف دينهما بحديث: «لا يرث المسلم الكافر, ولا الكافر المسلم», ولأنّه ميراثٌ فيمنعه اختلاف الدّين كميراث النّسب, ولأنّ اختلاف الدّين مانع من الميراث بالنّسب فمنع الميراث بالولاء كالقتل والرّقّ, يحقّقه: أنّ الميراث بالنّسب أقوى, فإذا منع الأقوى فالأضعف أولى, ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ألحق الولاء بالنّسب بقوله: «الولاء لحمة كلحمة النّسب»، فكما يمنع اختلاف الدّين التّوارث مع صحّة النّسب وثبوته كذلك يمنعه مع صحّة الولاء وثبوته, فإذا اجتمعا على الإسلام توارثا كالمتناسبين. وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا أعتق الكافر مسلماً - سواء ملكه مسلماً أو أسلم عنده - أو أعتق عنه فلا ولاء للكافر على المسلم, بل ولاؤه للمسلمين, ولا يعود له إن أسلم على المذهب. وإن أعتق المسلم كافراً فماله لبيت مال المسلمين إن لم يكن للمسلم قرابة على دينه, فإن كان له قرابة كفّار فالولاء لهم, فإن أسلم عاد الولاء لسيّده المسلم. وروي عن علي رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز أنّهما يتوارثان, وهي رواية عن أحمد. وانظر مصطلح (إرثٌ ف / 18).
6 - لا يصح من مولى العتاقة نقل الولاء بالبيع أو الهبة, ولا أن يأذن لعتيقه أن يوالي من يشاء, ولا ينتقل الولاء بموت المولى, ولا يرثه ورثته, وإنّما يرثون المال بالولاء مع بقائه للمولى. لحديث: «نهى النّبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته» وقال: «الولاء لحمة كلحمة النّسب»، وقال عليه الصلاة والسلام عليه الصّلاة والسّلام عليه الصلاة والسلام: «لعن اللّه من تولّى غير مواليه» ؛ ولأنّه معنىً يورث به فلا ينتقل كالقرابة.
7 - لو أعتق عبده على أن لا ولاء له عليه, أو على أن يكون سائبةً, أو على أن يكون الولاء لغيره لم يبطل ولاؤه ولم ينتقل كنسبه لخبر: «ما كان من شرط ليس في كتاب اللّه فهو باطل, وإن كان مائة شرط, قضاء اللّه أحق, وشرط اللّه أوثق»، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «الولاء لمن أعتق»، وقوله: «الولاء لحمة كلحمة النّسب». فكما لا يزول نسب الإنسان ولا ينتقل كذلك لا يزول ولاء العتاقة, ولذلك لمّا أراد أهل بريرة اشتراط ولائها على عائشة رضي الله عنها قال صلى الله عليه وسلم: «اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء, فإنّ الولاء لمن أعتق»، يعني: أنّ اشتراط تحويل الولاء لا يفيد شيئاً, وروي أنّ رجلاً جاء إلى عبد اللّه رضي الله عنه فقال: إنّي أعتقت غلاماً لي وجعلته سائبةً, فمات وترك مالاً. فقال عبد اللّه: إنّ أهل الإسلام لا يسيّبون, وإنّما كانت تسيّب أهل الجاهليّة, وأنت وارثه وولي نعمته, فإن تحرّجت من شيء فأدناه نجعله في بيت المال. وقال أحمد في رواية عبد اللّه: إن أعتق الرّجل عبده سائبةً, كأن يقول: قد أعتقتك سائبةً لم يكن له عليه ولاء, وكأنّه جعله للّه وسلّمه, وقال أحمد: قال عمر رضي الله عنه: السّائبة والصّدقة ليومها ومتى قال الرّجل لعبده: أعتقتك سائبةً لم يكن له عليه ولاء, فإن مات وخلّف مالاً ولم يدّع وارثاً أشتري بماله رقاب فأعتقوا في المنصوص عن أحمد، قال: أعتق ابن عمر رضي الله عنهما عبداً سائبةً, فمات, فاشترى ابن عمر بماله رقاباً فأعتقهم وولاؤه لجماعة المسلمين. وانظر مصطلح (سائبة ف / 3).
8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من لا عصبة له بنسب وله معتق فماله وما لحق به - أو الفاضل منه بعد الفروض أو الفرض - له, رجلاً كان أو امرأةً, لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الولاء لمن أعتق» ؛ ولأنّ الإنعام بالإعتاق موجود من الرّجل والمرأة فاستويا في الإرث به. فإن لم يوجد معتق فلعصبته: أي المعتِق. وترتيبهم كترتيبهم في النّسب, فيقدّم ابن المعتق, ثمّ ابنه وإن سفل, ثمّ أبوه, ثمّ جده وإن علا. ولكن قال الشّافعيّة: الأظهر أنّ أخا المعتق لأبوين أو لأب وابن أخيه يقدّمان على جدّ مولى العتاقة جرياً على القياس في أنّ البنوّة أقوى من الأبوّة. وإنّما خالفوا في النّسب لإجماع الصّحابة رضي الله عنهم على أنّ الأخ لا يسقط الجدّ, ولا إجماع في الولاء فصاروا إلى القياس. وللتّفصيل أنظر مصطلح (إرثٌ ف / 51).
9 - لا يرث النّساء بالولاء إلّا من أعتقن بالمباشرة, أو منتمياً إليه بنسب أو ولاء لحديث: «ليس للنّساء من الولاء إلّا ما أعتقن, أو أعتق من أعتقن, أو كاتبن أو كاتب من كاتبن, أو دبّرن أو دبّر من دبّرن, أو جرّ ولاء معتَقهنّ». ولأنّ ثبوت صفة الملكيّة والقوّة للمعتق حصل من جهتها, فكانت محييةً له فينسب المعتق بالولاء إليها. فإن مات مولى العتاقة, ثمّ مات بعده عتيقه ولم يخلّف عاصباً ذكراً فإرثه لجماعة المسلمين, ولا حقّ لبناته ولا لأخواته انفردن أو اجتمعن, فلو مات مولى العتاقة عن ابن وبنتٍ, ثمّ مات العتيق ولم يخلّف وارثاً فما تركه العتيق لابن مولى العتاقة ولا شيء للبنت. وكذا إن ترك ابن عم وبنت صلب أخذ ابن العمّ المال ولا شيء لبنت الصلب.
10 - يثبت لمولى العتاقة ولاية الصّلاة على عتيقه, وولاية النّكاح على أولاده القصّر, وعليه العقل عنه.
1 - مولى الموالاة مركّب من لفظين: مولًى, والموالاة. والمولى مأخوذ من الولاء, وهو النصرة والمحبّة, ويطلق المولى على: ابن العمّ وعلى العصبة عامّةً, وعلى المعتَق (بالفتح), والمعتِق (بالكسر), وعلى الحليف, والنّاصر. والموالاة لغةً: مصدر للفعل والى, يقال: والاه موالاةً وولاءً, من باب قاتل: تابعه. ومولى الموالاة اصطلاحاً هو: أن يؤاخي شخص مجهول النّسب شخصاً معروف النّسب ويوالي معه, كأن يقول: أنت مولاي ترثني إذا مت, وتعقل عنّي إذا جنيت, وقال الآخر: قبلت. أو يقول: واليتك, فيقول: قبلت بعد أن ذكر الإرث والعقل في العقد, ويسمّى هذا العقد " موالاةً " والشّخص المعروف النّسب: " مولى الموالاة ". مولى العتاقة: 2 - مولى العتاقة هو: من له ولاء العتاقة, ويطلق على من عتق عليه رقيق أو مبعّضٌ بإعتاق منجّز استقلالاً, أو بعوض كبيع العبد من نفسه, أو ضمناً كقول الرّجل لآخر: أعتق عبدك عنّي فأجابه الآخر, أو بكتابة منه, أو تدبير, أو باستيلاد أو قرابة كأن يملك من يعتق عليه من أقاربه بإرث أو بيع, أو هبة. والصّلة بينهما أنّ كلاً من مولى العتاقة ومولى الموالاة سبب من أسباب الميراث عند من يقول ببقاء الميراث لمولى الموالاة.
3 - اختلف الفقهاء في ميراث مولى الموالاة. فذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن شبرمة والثّوري والأوزاعي إلى أنّ عقد الموالاة ليس سبباً من أسباب الإرث. وذهب الحنفيّة إلى أنّ عقد الموالاة سبب من أسباب الإرث, ومرتبته بعد مولى العتاقة, فإذا أسلم شخص مكلّف على يد رجل مسلم ووالاه, وعاقده على أن يرثه, كأن يقول: أنت مولاي ترثني إذا مت وتعقل عنّي إذا جنيت, فيقول الآخر: قبلت, صحّ هذا العقد, فيرثه إذا مات بعد ذكر الإرث والعقل, وعقله عليه وإرثه له. وكذا لو شرط الإرث والعقل من الجانبين, فيرث كل منهما صاحبه إذا مات قبله. ولكلّ أدلّته, والتّفصيل في مصطلح (إرثٌ ف / 52).
4 - يشترط لصحّة عقد الموالاة عند الحنفيّة: أ - أن يذكر الميراث والعقل في العقد, لأنّه يقع على ذلك, فلا بدّ من ذكره في العقد, وإن شُرِط الإرث والعقل من الجانبين كان كذلك, لأنّه ممكن, فيتوارثان بلا خلاف بين فقهاء الحنفيّة. ب - أن يكون مجهول النّسب, وهذا محل خلاف بين علماء الحنفيّة, فذهب بعضهم إلى عدم اشتراط أن يكون مجهول النّسب, وقال ابن عابدين: وهو المختار. ج - أن لا يكون عليه ولاء عتاقة, ولا ولاء موالاة قد عقل عنه, فإن عقل عنه فليس له الانتقال لتأكد العقد بالعقل عنه. د - أن يكون حراً بالغاً عاقلاً, فلو عقد مع صبي مميّز أو مع عبد لا ينعقد إلّا بإذن الأب والسّيّد, فإن أذن الأب صحّ ويكون العقد للصّبيّ, كما يصح عقده مع العبد بإذن السّيّد إلّا أنّ العقد للسّيّد, فيكون العبد وكيلاً عنه في عقده. هـ - أن لا يكون عربيّاً ولا مولى عربي, لأنّ تناصر العرب بالقبائل فأغنى عن الموالاة. و - أن لا يكون عقل عنه بيت المال, لأنّه حينئذٍ يكون ولاؤه لجماعة المسلمين, فلا يملك تحويله إلى واحد منهم بعينه. وأمّا الإسلام فليس بشرط, فتجوز موالاة المسلم الذّمّيّ وعكسه, والذّمّي الذّمّيّ وإن أسلم الأسفل, لأنّ الموالاة كالوصيّة في صحّتها من المسلم والذّمّيّ للمسلم أو الذّمّيّ, لكن بينهما فرق من جهة أنّ الموصى له يستحقها بعد موت الموصي مع اختلاف الدّين, بخلاف المولى فإنّه لا يرث مع اختلاف الدّين.
5 - يجوز لكلّ واحد من المتعاقدين الانتقال من موالاة صاحبه إلى غيره بمحضر من الآخر ما لم يعقل عنه, لأنّ العقد غير لازم كالوصيّة والوكالة, فلكلّ واحد منهما أن ينفرد بفسخه بعلم صاحبه, وإن كان الآخر غائباً لا يملك فسخه وإن كان غير لازم, لأنّ العقد تمّ بينهما كما في الشّركة والمضاربة والوكالة, ولا يخلو عن ضرر, لأنّه قد يموت الأسفل فيكون الأعلى أخذ ماله ميراثاً فيكون مضموناً عليه, أو يعتق الأسفل عبيداً على ظنّ أنّ عقل عبيده على المولى الأعلى فيجب عليه وحده فيتضرّر بذلك, فلا يصح الفسخ إلّا بمحضر من الآخر. وإن عاقد الأسفل الموالاة مع غير مولاه بغير محضر من الأوّل تصح الموالاة, وينفسخ العقد الأوّل لأنّه فسخٌ حكميّ, فلا يشترط فيه العلم, كما في الشّركة والمضاربة. وإنّما كان كذلك لأنّ الولاء كالنّسب, إذا ثبت من شخصٍ ينافي ثبوته من غيره فينفسخ ضرورةً. والمرأة كالرّجل في هذا لأنّها من أهل التّصرف. هذا إذا لم يعقل عنه, فإن عقل عنه فليس له التّحول إلى غيره لتأكد العقد بتعلق حقّ الغير به, ولحصول المقصود به, ولاتّصال القضاء به, ولأنّ ولاية التّحول قبل أن يعقل عنه باعتبار أنّه عقد تبرع من حيث إنّه تَبَرَّعَ بالقيام بنصرته وعقل جنايته, فإذا عقل عنه صار كالعوض في الهبة, وكذا لا يتحوّل ولده بعد ما تحمّل الجناية عن أبيه, وكذا إذا عقل عن ولده لم يكن للولد ولا للأب أن يتحوّل إلى غيره, لأنّهما كشخص واحد.
6 - إن والت امرأة فولدت تبعها الولد في الموالاة. وكذا لو أقرّت أنّها مولاة فلان - ومعها صغير لا يعرف له أب - صحّ إقرارها على نفسها, ويتبعها ولدها, ويصيران مولىً للمقرّ له, وهذا عند أبي حنيفة, لأنّ الولاء كالنّسب, وهو نفع محضٌ في حقّ الصّغير الّذي لا يعرف له أب فتملكه الأم كقبول الهبة. وقال صاحبا أبي حنيفة: لا يتبعها ولدها في الصورتين, لأنّ الأمّ لا ولاية لها في ماله, فلأن لا يكون لها في نفسه أولى.
7 - يرث مولى الموالاة بالعصوبة عند الحنفيّة, فيأخذ جميع التّركة عند انعدام وارث سواه, فيؤخّر في الإرث عن العصبة بأقسامها الثّلاثة: العصبة بالنّفس, والعصبة بالغير, والعصبة مع الغير. كما يؤخّر عن مولى العتاقة, لأنّ توريث مولى العتاقة بالإجماع, وفي توريث مولى الموالاة خلاف. ويؤخّر أيضاً عن ذوي الأرحام, لأنّ عقد الموالاة عقدهما فلا يؤثّر في غيرهما, وذوو الأرحام وارثون شرعاً فلا يملكان إبطاله. وإذا مات الأعلى ثمّ الأسفل فإنّما يرثه الذكور من أولاد الأعلى دون الإناث.
|